تركيا تبتلع الفرات وبر الشام يترنح عطشاً
-دحام الأسعد –
عادةً ما يكون شهر أيار/ مايو هو موسم الوفرة في مدينة الرقة، ويرجع الفضل في ذلك إلى نهر الفرات الذي يُغذي المحاصيل ويُساهم في التخفيف من حرارة الصيف المرتفعة.
لكن هذه السنة تشهد انخفاضاً كبيراً للغاية في منسوب النهر الذي ينبع من جبال طوروس في تركيا، ثم يشق طريقه عبر الأراضي السورية ثم العراقية قبل أن يصب في الخليج العربي في نهاية رحلته. وقد يُعرقل هذا الانخفاض الجهود المبذولة من أجل إعادة بناء المنطقة بعد طرد “داعش” منها في 2016.
يقول حسين عبود، الذي جاء للجلوس على ضفة النهر للترويح عن نفسه في ظهيرة يومٍ حار، “ولدتُ في الرقة وعشت فيها طوال سنين عمري الـ46، ولم يسبق أن رأيت منسوب النهر بهذا الانخفاض يوماً”.
تُوضح العلامات التي وضعها حسين على ضفتي النهر مدى الانخفاض الكبير الذي حدث. فقد انحسر مجرى النهر من عشرة أمتار إلى عشرين متراً في غضون أربعة أشهر، ما أدى إلى ظهور بعض الجزر النهرية.
يواصل حسين حديثه، بينما يجلس على كرسي بلاستيكي وتُلامس قدماه المياه، “تُحاول المدينة بأسرها التعافي من الحرب. وبسبب نقص المياه، صار كل من فيها يعانون مُجدداً. وتعاني أراض كثيرة من الجفاف لدرجة تتعذر معها زراعتها”.
سأل رجلٌ يقود جراراً زراعياً من مسافة بعيدة قليلاً نم مجرى النهر، وجاء مع ابناه لملء صهريج بالماء، “كيف سنواصل العيش هنا؟”.
وقال عثمان خلف، المتحدث باسم المجلس البلدي للرقة، إن العواقب وخيمة للغاية على سكان المدينة.
النَهر هو المصدر الرئيسي لمعظم مياه الشرب. ويعتمد المزارعون عليه في الري وتربية المواشي. وعصفت الأمراض بِقطعان الجاموس التي تُربى على ضفتي نهر الفرات. وحالياً، لا تتوافر الكهرباء في معظم قرى الرقة سوى من 6 إلى 8 ساعات في اليوم. وعادت مولدات الكهرباء القديمة التي تعمل بالديزل، بتكلفة لا يستطيع كثيرون تحملها، إلى الظهور في الشوارع.
يُوضح عبد الرزاق العلواني، المدير السابق للإدارة المسؤولة عن صيانة نهر الفرات، لصحيفة “ذا ناشيونال” أن منظومة العمل في حوض بلاد الرافدين خلال السنوات الأخيرة كانت ضمن الأسباب الرئيسية والمصدر الأساسي لتهديد خطير بخفض منسوب المياه في نهر الفرات.
فعلى حد قوله، بلغ إجمالي الموارد المائية التي استقبلتها سوريا من تركيا 50 مليار متر مكعب، في عام 2019، مع معدل تدفق لا يقل عن ألف متر مكعب في الثانية في المتوسط. يتقاسم العراق وسوريا حصة تبلغ 500 مليار متر مكعب في الثانية، وفي معظم الأحيان لا تتجاوز الموارد المائية 16 مليار متر مكعب سنوياً، مع الأخذ في الاعتبار الحد الأقصى المعتاد لسنوات الجفاف.
وعلى رغم أن عامي 2020 -2021 قد شهدا فترات جفاف شديدة وتأرجح معدل التدفق ما بين 200 إلى 700 متر مكعب في الثانية، يرجع ذلك إلى انخفاض منسوب المياه في المنبع وهو ما يشكل بدوره تهديداً خطيراً بخفض منسوب المياه في نهر الفرات.
يضيف عبد الرزاق أن الاحتباس الحراري وتبديد الموارد قد دمرا الهياكل الأساسية ولعبا دوراً رئيسياً في انخفاض معدل التدفق من تركيا. إنما ثمّة جانب جيوسياسي للمسألة أيضاً، وهو أمر تستغله الأطراف في النزاع السوري.
شيّدت تركيا، التي تتحكم في الموارد المائية، نحو 20 سداً على أراضيها منذ ثمانينات القرن الماضي على رغم اعتراض البلدان المجاورة على ذلك، ورفضت مناقشة مسألة المشاركة في إدارة الموارد المائية.
عام 1987، وقّعت تركيا وسوريا والعراق اتفاقية تعهدت تركيا بموجبها بإمداد سوريا بمعدلٍ سنويٍ لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية، ووافقت سوريا على تمرير 60 في المئة من تلك المياه إلى الأراضي العراقية.
تعيش عائلات نازحة في خيام، على طول مجرى نهر الفرات في غرب الرقة. وصل محمد محسن وأفراد من عشيرته من محافظة حماة – التي يُسيطر عليها النظام السوري – واستقروا في قرية السلحبية.
وقال محمد، الذي كان يجلس في خيمة ويرتدي الزي التقليدي: الجلباب الأبيض والشماغ الأحمر، “أتينا إلى هنا وعزمنا على عدم العودة. لكن منسوب المياه آخذ في الانخفاض منذ العام الماضي، وسوف نضطر إلى استخدام المضخات لري محاصيلنا. وإذا استمر الحال هكذا، سوف يُجبر الجميع على الرحيل مجدداً، لأبعد من ذلك”.
تشهد أنقرة أيضاً ربيعاً جافاً للغاية مع تضاؤل احتياطاتها المائية. لكن سوريا والعراق ينددان بهيمنة تركيا على المياه. يقول عثمان، “تريد تركيا إضعاف شوكة الإدارة الكردية في شمال سوريا. وإذا نفد الماء، فسوف ينقلب الناس عليها في نهاية المطاف”، مضيفاً، “تتمثل خطة تركيا المدروسة في نضوب الموارد المائية”.
وهذا هو رأي معظم سكان الرقة الذين تتوقف حياتهم على النهر.
“أردوغان هو السبب في كل ما يحدث”، على حد قول إبراهيم حسان (53 سنة)، وهو رجل ضخم ذو لحية سوداء كثيفة. يأتي إبراهيم إلى نهر الفرات ويُلقي شباكه محاولاً اصطياد بعض أسماك الشبّوط.
يقول إبراهيم، وهو أب لتسعة أبناء، “ينخفض منسوب المياه يوماً بعد يوم. تتمثل الخطة في تعطيش السكان لجعلهم يدعمون تركيا. إذ تخضع الرقة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ولا تستطيع أنقرة تحمل ذلك”.
طالبت “قسد”، وكذلك الحكومة السورية التي تفرض سيطرتها على الضفة الشرقية لنهر الفرات، تركيا بفتح بوابات سدودها لزيادة تدفق المياه إلى سوريا.
واصل إبراهيم حديثه قائلاً، “تأثر الصيد أيضاً. وتزداد وتيرة التصحر باطراد شديد. سيرجعنا هذا أربعين عاماً للوراء، فيما يتعلق بإمكانية الوصول إلى المياه”. تأتي 90 في المئة من كهرباء المدينة من سد الطبقة المُشيد على نهر الفرات.
كما تعتمد مدينة الرقة في إمداداتها المائية على سد الطبقة، الذي يقع على بُعد 40 كيلومتراً من منبع مدينة الرقة. لكن منذ شهر كانون الأول/ دبسمبر، انخفض منسوب المياه في الخزان بما يزيد عن 5 أمتار.
يُوفر هذا السد الضخم، الذي بناه السوفيات في سبعينات القرن الماضي، المياه لسبعة ملايين شخص، ويُزود أجزاء كبيرة من شمال سوريا بالكهرباء. لا تزال 4 من أصل 8 توربينات صالحة للعمل، في حين دمر “داعش” الأخرى.
لكن عندما زرنا مدينة الطبقة في 12 أيار/ مايو، لم يكن هناك سوى توربين واحد فقط يعمل. ولا يزال هذا هو الوضع القائم إلى يومنا، بسبب التراجع الكبير في معدل تدفق النهر.
يُوضح ولات درويش، المدير الإقليمي لإدارة الموارد المائية ذلك قائلاً، “يُولد السد حالياً 120 ميغاوات من الكهرباء، مقارنة بـ450 ميغاوات في السابق”.
مضيفاً أن “معدل تدفق النهر تراجع من 500 متر مكعب في الثانية، وهو ما يتوافق مع المعدل المنصوص عليه في الاتفاقية التي وقّعتها البلدان الثلاثة، إلى 200 متر مكعب في الثانية. وتلك أزمة أسوأ من سابقتها. لأنه إذا استمر هذا الوضع، سنضطر إلى إيقاف آخر توربين عن العمل في غضون شهرين”.
يرى درويش، الموظف في الإدارة الكردية، أن “هذا النهر يُمثل حلقة وصل تاريخية بين مُجتمعات وحضارات مختلفة. تُحاربنا تركيا بسلاح الماء. وأملنا الوحيد هو أن يضغط المجتمع الدولي على تركيا حتى تفتح بوابات سدودها”.