منذ الانتخابات الداخلية في حركة حماس، عام 2017، بدأت القيادة الجديدة رحلة ترميم القدرات السياسية، في موازاة عمل «كتائب القسّام» على ترميم قدراتها وتطويرها بعد نهاية عدوان عام 2014. وقد ركّزت قيادة حماس على جبهات عدّة، أبرزها ترجمة قرار قيادي بالانسحاب الكامل من الجبهات السياسية المشتعلة في العالم العربي. وهو قرار اتّخذ في ضوء مراجعة ما شهده العالم العربي منذ عام 2011.

من الضروري التأكيد أن الحركة لم تتخلّ عن مواقفها إزاء تطلعات قوى وجماهير عدد من الدول العربية. لكن النقاش عندما انطلق من موقع قضية فلسطين في هذه التحركات، وتركز على انعكاساتها على المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، سمح باستخلاص أمرين:
الأول: إجراء مقاصّة استمر النقاش حولها حتى اللحظة، وموجزها أن حصيلة الوضع السياسي في المنطقة العربية، على مستوى مواقف الحكومات وطبيعة الأنظمة الحاكمة، لم تكن في مصلحة القضية الفلسطينية، ولا في مصلحة المقاومة تحديداً. ويقول مرجع بارز في الحركة إن تقييماً سريعاً يمكنه أن يقود الى تدحرج الوضع السياسي في العالم العربي، من التخلّي عن القضية الى مرحلة التطبيع، لم يكن ليحصل لولا التراجع الحادّ في أدوار ومواقع دول مثل مصر والعراق، وخصوصاً سوريا. كما أن الحركة المعارضة للنظام في دمشق لم تحقق أي تغيير من شأنه إضافة ما يفيد القضية الفلسطينية، بل تحوّل الأمر الى مجرد تدمير للدول والمجتمعات من داخلها.
الثاني: أن إعادة الاعتبار لخيار المقاومة المباشرة كطريق إلزامي لتحقيق التحرير واستعادة الحقوق، تعني بناء استراتيجية مع القوى والحكومات والأطر التي تنخرط فعلياً في معركة المقاومة، ولا تقف لا في الوسط ولا في مربّع الداعين الى استمرار المفاوضات. وأدركت قيادة الحركة أن كتائب القسام نفسها، التي تحتاج الى دعم متنوع من حيث القدرات والإمكانات والخبرات، لم تجد خارج جبهة محور المقاومة من يقدم العون الحقيقي. ويبدو واضحاً لقيادة الحركة أن كل الدعم السياسي والمالي الذي يصل الى الحركة، أو إلى الفلسطينيين في غزة وبقية فلسطين، يخضع لرقابة فعلية، وأن هناك قوى وحكومات وجمعيات تخشى ذهاب الدعم الى الجناح العسكري. فيما تبقى إيران وحدها، ومعها حزب الله، من لا يقتصر دعمه على الجانب المدني، بل يذهب مباشرة الى دعم حاجات الأجنحة العسكرية بكل ما تحتاج إليه وبكل ما يمكن إيصاله إليها من أموال أو عتاد، إضافة الى بند رئيسي آخر يتعلق بالتدريب والخبرات، وهو أمر يستحيل أن تعثر عليه كتائب القسام خارج الضاحية الجنوبية وطهران، مع الإشارة الى أن النقاشات الداخلية حول هذا الأمر كانت تتطرق تلقائياً الى خسارة الساحة السورية بما يخص عمل الأجنحة العسكرية.
في اللقاء الذي جمع الرئيس السوري بشار الأسد مع قادة فصائل فلسطينية، قبل عشرة أيام، قال له قائد حركة الجهاد الإسلامي المجاهد زياد نخالة إن الصاروخ الأول المضاد للدروع الذي أطلقته «سرايا القدس» باتجاه مركبة صهيونية قرب غلاف غزة، حصلت عليه المقاومة بدعم من سوريا، وإن الصاروخ نفسه انتقل الى غزة عبر مرفأ اللاذقية. وتحدث النخالة عن دور سوريا في تسهيل تدريب مئات الكوادر المقاتلة التي عملت على القوة الصاروخية وعلى المشاريع القتالية.
هذا الموقف سبق أن شرحه بالتفصيل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابلة له قال فيها إن الجيش السوري فتح مستودعاته الخاصة بالأسلحة المضادة للدروع لإرسالها الى قطاع غزة وتزويد فصائل المقاومة الفلسطينية بكميات كبيرة منها، بالإضافة الى أمور أخرى.
في هذا السياق، يعرف الجميع أن النقاش حول المسألة السورية كان عنصراً رئيسياً في القطيعة الكبرى بين دمشق وحماس. وكان واضحاً أن لدى القيادة السورية اقتناعاً بأن تياراً قوياً داخل الحركة انضم الى تيار «الإخوان المسلمين» في العالم العربي في دعم المعارضة المسلحة ضد النظام. بل يمكن القول، ويجب المصارحة، إن في سوريا من يتحدث عن نشاط مباشر لمجموعات فلسطينية كانت تعيش في كنف حماس، الى جانب المسلحين في أكثر من مكان ولا سيما في العاصمة والغوطة، رغم أن قيادة حماس نفت مراراً علاقتها بهذه المجموعات، من دون أن تنفي أن بعض عناصر المسلحين الفلسطينيين عملوا في الحركة لسنوات. وعزت قيادة حماس مغادرتها دمشق الى أسباب كثيرة، بينها أن دمشق طلبت وساطة الرئيس السابق للحركة خالد مشعل مع قيادات إسلامية سورية، وأنها عادت وتخلّت عن الحوار. كما أن دمشق كانت تريد من الحركة إطلاق مواقف معارضة لتحركات خصوم النظام. لكن الحقيقة أن هذا التيار داخل حماس تأثر كثيراً بما جرى على الصعيد العربي عموماً، والتقارب غير العادي الذي قام بين قيادة الحركة (مشعل) وبين الإدارتين القطرية والتركية انسحب على المسألة السورية، ما أدى عملياً الى قطيعة سياسية مع إيران. لولا أن كتائب عز الدين القسام، وبعض قيادات الحركة، عملوا على إعادة وصل ما انقطع مع إيران، وتمّت عملية التواصل والتعاون بين الحرس الثوري، وخصوصاً قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني، من دون المرور بالقيادة السياسية للحركة أو اشتراط التفاهم السياسي على مسائل كثيرة. وكان لهذا التفاهم والتعاون (الذي انطلق من جديد في عام 2013 وعاد الى زخمه السابق بعد حرب عام 2014) الدور البارز في تظهير قيادات بارزة في حماس موقفها الذي يقول بأن مسيرة المقاومة تقتضي التخلي عن التدخل في الأمور الداخلية للدول، وهو ما شمل أيضاً ما حصل في مصر.

ومع أن طبيعة النقاشات الداخلية لم تظهر الى العلن، فإن من هم خارج حماس، انقسموا بين فريقين، الأول دعا الى التمهل في تقييم الموقف النهائي، خشية أن يكون تصرف حماس مجرد تبديل في التموضع ربطاً بالتراجع الحاد لدور الإخوان المسلمين ونفوذهم في العام العربي، وحجة هؤلاء أن الحركة لم تقم بمراجعة جدية لموقفها مما يجري في العالم العربي. وذهب أصحاب هذا التوجه إلى حدّ القول إن قيادة حماس أظهرت خشية كبيرة من نموّ التيار السلفي داخل قواعد الإخوان المسلمين ولدى قيادته الدينية، وإن هذا التيار يدعم بقوة فكرة الانقضاض على الأنظمة التي تصنّف في خانة «الكفر»، إضافة الى أن هذا التيار كان يصرّح بأنه ضد التعاون مع جهات أو حركات أو قوى لديها خلفية فكرية مختلفة. وكان المقصود، هنا، إيران وحزب الله وقوى من المقاومة العراقية.
لكن هذا الموقف لم ينسحب على مواقع قيادية بارزة في محور المقاومة. وتولى مرشد إيران السيد علي خامنئي حسم الجدل حول الموقف من حماس على وجه الخصوص، وأوصى قيادات الحرس الثوري وحزب الله ومؤسسات إيرانية بضرورة الفصل بين الموقف من مقاومة العدو، وبين المواقف الخلافية السياسية. وهو وفّر الغطاء لأكبر عملية دعم تقررت للأجنحة العسكرية في فلسطين، وعلى رأسها القسام، ضمن برنامج لا يزال مستمراً الى اليوم، وهو في صدد التطوير النوعي بعد الحرب الأخيرة.
ضمن هذه المناخات، كانت العلاقات بين حركة حماس ومحور المقاومة تمرّ بمنعطفات داخل الأطر التنظيمية في حركة حماس نفسها. ويمكن القول إنه خلال السنوات السبع الأخيرة، حسمت قيادة الجسم العسكري وقسم كبير من القيادة السياسية الموقف باتجاه تعزيز العلاقة مع محور المقاومة، وفتح ملف العلاقة مع سوريا ضمن المناقشات الجارية مع إيران وحزب الله.
كما يمكن الجزم بأن في قيادة الحركة، اليوم، جسماً كبيراً ونافذاً يرى أن العلاقة مع محور المقاومة استراتيجية وقد أثبتت صدقيتها، وخصوصاً أن هذه العلاقة لا تطلب من الحركة أثماناً سياسية لدعمها، والأهم وجود عامل مشترك معها يتعلق بالهدف الأول للحركة المتمثل في مواجهة الاحتلال وتحرير الأراضي الفلسطينية، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الحركة ارتكبت خطأً جسيماً في التصادم مع محور المقاومة خلال الأزمة السورية، إذ كان يمكنها النأي بالنفس، وخصوصاً أن داخل الجسم العسكري من يقول صراحة بأن على المقاومة في فلسطين السعي الى بناء حلف استراتيجي مع محور المقاومة بما يجعل من قوة الحركة مماثلة لتلك التي يمتلكها حزب الله، تمهيداً لدخول معركة تحرير مشتركة ضد دولة الاحتلال في السنوات المقبلة.
وقد نجح هذا التيار، ليس في إلغاء أو فرض الصمت على التيار الآخر ــــ وهو تيار له رموزه القيادية على أكثر من مستوى، ويرى بأن موقف الحركة يجب أن يكون مرتبطاً بما يجري داخل الدول العربية نفسها. وهؤلاء عندما ينتقدون العلاقة مع إيران يعزون موقفهم الى ما تقوم به إيران من دعم للنظام في سوريا وللحكم في العراق، ولهذا التيار رموزه التي تحركت بطريقة ذكية، ولم تكن له الوجوه البارزة المستفزّة للتيار الآخر داخل الحركة. لأن من الواضح أن الجميع داخل حماس لا يريدون الذهاب الى مواجهة داخلية، حتى ولو بادرت قيادة الحركة في غزة الى التصرف بحزم مع كل ما يمكن أن يعطل برنامج دعم المقاومة. حتى المبادرة الى استئصال الحركة الداعشية في غزة، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، والعمل على محاصرتها تعبوياً ودعوياً، انطلقت من كون قيادة الحركة ترى في هذا الفكر خطراً عليها قبل أن يشكل خطراً على الآخرين، ولم يكن الأمر على شكل تقديم فروض الطاعة للمصريين كما يعتقد البعض، بل كان يعبّر عن فهم اختصره أحد القادة بالقول: نحن جزء من الإخوان المسلمين، وفكرنا ليس تكفيرياً. وما تحاول الحركة الوهابية تكريسه من مفاهيم لا يمكن أن يتحول الى وقائع برغم الدعاية القوية له.
عملياً، حسمت الحرب الأخيرة توجهات الجسم الأبرز في حماس، سياسياً وعسكرياً، بالتوجه نحو بناء استراتيجية جديدة تقوم أولاً على الانفتاح أكثر على القوى الفلسطينية الأخرى، وعلى تعزيز العلاقات مع إيران وقوى محور المقاومة ولا سيما حزب الله، وعلى إطلاق عمليات تواصل سياسي مع أطراف أخرى في المحور من دمشق الى اليمن، مروراً بالعراق.
لكن كل ذلك لم يكن عائقاً أمام سير الجسم القيادي في حماس نحو حسم مبدأ استعادة العلاقات مع سوريا على وجه الخصوص. وخلال الدورة الماضية (ولاية قيادة الحركة) اعترض أقل من ربع الأعضاء من مجلس شورى الحركة على عودة العلاقة مع سوريا، بينما أيدها ثلاثة أرباع المجلس. وفي المكتب السياسي، كان هناك إجماع مطلق على عودة العلاقة وفق رؤية لا تلزم حماس بأيّ أثمان سياسية أو تغييرات عقائدية، وهو السقف الذي عطّل مناورات قادها بارزون في الحركة، على رأسهم خالد مشعل الذي صار يتعامل الآن بواقعية براغماتية، وخصوصاً أنه عاد الى الجسم التنظيمي، بعد انتخابة رئيساً لإقليم الحركة خارج فلسطين، وهو ألزم نفسه بمواقف تعبّر عن الموقف العام للحركة، وربما هذا يفسّر تعرّضه لانتقادات من «المغالين» بسبب تصريحاته الأخيرة خلال الحرب على غزة، وشرحه لطبيعة العلاقة مع إيران أو سوريا، علماً بأن مشعل لم يقل ما يفيد بأنه عدل في جوهر موقفه، لكنه بات مضطراً إلى أن ينطق بما يتقرر من توجهات على صعيد قيادة الحركة.
على أن الجهد الذي يقوم به حزب الله مع القيادة السورية يحتاج الى تغيير جدي في نظرة دمشق الى موجبات تعزيز جبهة المقاومة ضد العدو وحلفائه. وهذا يفرض معالجة بعض الأمور داخل سوريا. لكن الأهم أن تبادر دمشق الى استغلال معركة «سيف القدس» لإطلاق دينامية جديدة هدفها احتواء كل الخلافات، وإعادة المياه الى مجاريها مع قيادة حماس، مع العلم بأن الوسطاء يعرفون أن الأمر يحتاج الى وقت وإلى خطوات بناء للثقة قبل التطبيع الكامل الذي يقود الى عودة قيادة حماس وكتائب القسام فيها الى الاستفادة من الساحة السورية بما يعزز قدراتها في مواجهة الاحتلال.