بين «المشير» وبايدن بعد الهبة المقدسية!
محمد عبد الحكم دياب-القدس العربي
تبدو الدوائر الصهيو غربية والمؤيدة لها من عرب وعجم؛ تبدو غير قادرة على تجاوز أطماعها ومشروعاتها التوسعية، ومستمرة في تبني مواقف وخطط معادية، ولم يستوعب العرابون العرب والمسلمون وغيرهم التحولات التي حدثت للقضايا الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين، فعادت إلى جوهرها وطبيعتها؛ كقضية تحرر واستقلال وطني؛ ساعية للتخلص من الاحتلال، وتفكيك البنى التحتية والفوقية للفصل العنصري، وهو العقيدة الأكثر دموية على مر التاريخ، وعلى قدر ما أثرت الهبة المقدسية فوحدت فصائل المقاومة، وغطت كامل التراب الفلسطيني، وإنهت زمن تباعد الجماعات والتنظيمات الفلسطينية؛ في الداخل والخارج، وفي الضفة وغزة، وبين فلسطينيي 48، وفي الشتات، وعلى مدى تاريخ طويل منذ بناء أول مستوطنة يهودية في فلسطين في القرن 17 الميلادي.
وبدأ مع حركة الإصلاح الديني في أوروبا، ومارتن لوثر، وظهور المذهب البروتستانتي، وترويجه لفكرة فصل اليهود عن النسيج الغربي، باعتبارهم شعب الله المختار؛ عَيْنُه على فلسطين، وعليه العودة إليها. وبادر التاجر الدانماركي أوليغربولي بتنفيذ توطين اليهود في فلسطين عام 1695م، وأعد خططه ووزعها على ممالك أوروبا، وفي نهاية القرن 18 الميلادي أخذ نابليون بونابرت على عاتقه إقامة «وطن قومي» لليهود، وكان أحد دوافعه لحملته على مصر والشام. وشاعت المطالبات بتوطين اليهود في القرن19، وكانت الأطماع الاستعمارية الأوروبية، وتقسيم تركة الدولة العثمانية؛ «رجل أوروبا المريض» قد شقت طريقها وظهرت «المسألة الشرقية». ووجدت من يتبناها؛ شخصيات يهودية بريطانية؛ كاللورد شافتسبوري، وربط بين حل المسالة الشرقيـة وتوطـين اليهـود في فلسطيـن، وعملت الدول العظمى وقتئذ على ذلك، ولعب اللورد بالمرستون (1784- 1856م) وكان وزيرا لخارجية بريطانيا، ثم رئيسا لمجلس الوزراء، وعَيَّن أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838م، وكلفه بحماية اليهود رسميا، وإبلاغ السفير البريطاني في القسطنطينية بطلب السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين من السلطان العثماني.
وتبلورت الحركة الصهيونية في أواخر القرن 19 وعقدت مؤتمرها الأول في بازل بسويسرا، وأداره تيودور هيرتزل (29 أغسطس 1897). والباقي معروف للمؤرخين والباحثين والمهتمين، وتضاعف خطر الاستيطان الصهيوني بعد نكبة 1948، وعقب الحرب العالمية الثانية ورثت الولايات المتحدة الدور البريطاني؛ منشئ المشروع الصهيوني، وانفجرت الحروب الدامية بين الدولة الصهيونية والعرب، وبعد أول شرخ في نظرية الأمن الصهيوني في حرب 1973 تنامي دور المقاومة الفلسطينية واللبنانية في القرن الواحد والعشرين، وأهم تحولاتها النوعية تمثلت في توازن الردع، مع الهبة المقدسية، وشملت كل فلسطين، ووصلت لرام الله وغزة، و«عرب 1948» حملة الجنسية الصهيونية.
وهيأت هذه الهبة لولادة جديدة لحركة المقاومة الوطنية والإسلامية الفلسطينية؛ بكل صورها وتنوعها وتكاملها ووحدة هدفها، وهو تحول يحتاج الرعاية والاهتمام الحقيقي للتصدى للمشروعات الصهيوغربية، ووقف توسعها، والتصدي لمن يساندونها ومقاطعتهم، وتجميد العلاقات معهم، وكشف ما يحاك من تواطؤ، والحفاظ على المكاسب المحققة وتطويرها، والاستفادة منها، ورغم سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمصابين نجح رهان المقاومة، وتحققت الوحدة الوطنية في ميادين القتال وساحات الاشتباك، وتجاوزت جولات المفاوضات العبثية والمساومات العقيمة التي تنتهي لصالح العدو، ولتكن الأولوية لترسيخ الوحدة الوطنية، واعتماد خيار المقاومة، وقد أضحى الخيار الأعظم الذي تضاءلت أمامه أي خيارات أخرى.
وأكد الرئيس محمود عباس (أبو مازن) لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في الاجتماع المشترك الثلاثاء الماضي (25/ 05/ 2021) في رام الله؛ على «التزام الجانب الفلسطيني بالمقاومة الشعبية السلمية، ونبذ العنف بكافة أشكاله» وشكر عباس الإدارة الأمريكية على جهودها بالتعاون الوثيق مع مصر والعرب والأطراف المعنية، لوقف إطلاق النار، مؤكدا على ضرورة تثبيت التهدئة لتشمل وقف اعتداءات المستوطنين المدعومين بقوات الاحتلال، ومنع الاستيلاء على منازل المواطنين الفلسطينيين، وطردهم من أحياء مدينة القدس في الشيخ جراح وسلوان، ووقف الاعتقالات وهدم المنازل واغتصاب الأراضي، ووقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس» وبثت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) «دعوة وزير الخارجية الأمريكي إلى تثبيت وقف إطلاق النار، والتعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة لدعم جهود إعادة الإعمار وخلق أفق سياسي، يلبي طموح الفلسطينيين (والإسرائيليين) والحفاظ بشكل متساو على كرامتهم وحريتهم وأمنهم؛ مؤكدا حل الدولتين واحترام الوضع القائم في الحرم الشريف ومنع تهجير الفلسطينيين من القدس» وأكد بلينكن قيام إدارة الرئيس بايدن بتعزيز العلاقات الثنائية مع السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
وفي الوقت نفسه زفت أجهزة إعلام وصحف ومواقع غربية وعربية وفلسطينية وصهيونية ما اعتبرته تحولا في مواقف دول عربية تجاه ما حدث في الأراضي الفلسطينية، وإعلان الرئاسة المصرية تخصيص 500 مليون دولار لإعمار غزة، وسماح السلطات المغربية بتظاهرات واسعة تضامنا مع القضية الفلسطينية، وذلك مظهر؛ أكثر منه مَخْبَرا، ولا يتعدى إمتصاص لا يتكافأ مع الولادة الجديدة للمقاومة.
وما زال تهديد بايدن للسيسي حيا في الذاكرة غير المثقوبة، وفي هواجس أثارتها حملة بايدن الانتخابية؛ عن كيفية تصرف «المشير» إذا ما رحل «حليفه» ترامب، وطرحت صحيفة «دويتشه فيله» الألمانية سؤالا أثناء الحملة الانتخابية في سبتمبر الماضي (2020) عن كيفية تعامل «المشير» مع إمكانية رحيل ترامب، وكان السؤال، ماذا لو فاز جو بايدن، وهو الذي لم تبدر منه بادرة قبول واحدة تجاه «المشير»؟، واستهجن وصف ترامب له رسميا بالزعيم الحقيقي» وفي غير ذلك يصفه بـ«ديكتاتوري المفضل» وكان الرئيس الأمريكي السابق يتعامل مع نظيره المصري، كشريك رئيسي، وهناك ما يربط بينهما وهي العلاقة الحميمية بنتنياهو، وساد التفاهم بينهما، وظهرا حليفين في وجه الانتقادات الموجهة لهما، وقد تكون لها انعكاسات على علاقات الدولتين. وبالفعل قامت قطيعة بين «المشير» وبايدن؛ أعادتها الهبة المقدسية.
وجو بايدن ورث عشق الصهيونية عن والده وتعهّد في حملته الانتخابية، بإبقاء السفارة الأمريكية في موقعها الجديد في القدس، وأقر تثبيت ما أقره ترامب بنقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة أبدية للدولة الصهيونية. وقال عام 1986، وهو عضو مجلس شيوخ: «إن (إسرائيل) إذا لم تكن موجودة، فستضطر الولايات المتحدة إلى اختراع إسرائيل لحماية المصالح الأمريكية» ونقلت عنه شبكة سي إن إن إنه حين سأل والده هل يَلْزَم اعتناق اليهودية ليصبح صهيونيا؛ رد عليه والده ليس شرطا أن تكون يهودياً لتصبح صهيونياً، وزاد «وها أنا ذا. (إسرائيل) تعتبر ضرورية لأمن اليهود حول العالم» ولم يستطع إمساك العصا من المنتصف، حتى لو أعاد فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، ولو أبقى حل الدولتين، وقد تجاوزته الظروف، وأضحى غير ممكن، وأعرب عن أسفه من إقدام ترامب على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب، قبل التوصل إلى «اتفاق سلام» وهذه حجج عمياء؛ وتحجب عنه الحقائق فل يراها، وقال: «أما وقد حصل ذلك فلن أعيد السفارة إلى تل أبيب».
وعادت السعادة البالغة والضحكة العريضة إلى وجه «المشير» تُذَكِّر بما كان يحدث في حضرة ترامب أو نتنياهو، وهي من العلامات غير المطَمْئِنة، واستمرار رهانه على قدرة بايدن «على صنع حلول جذرية لمشاكل المنطقة» حسب ما جاء في صفحة «المشير» على الفيسبوك في 24/ 05/ 2021، ويقول: «سعدت اليوم بحديثي المطول مع فخامة الرئيس بايدن والذي اتسم بالتفاهم والصراحة والمصداقية في كافة الموضوعات التي تهم البلدين والمنطقة»؛ نوع من خداع النفس يكشفه قوله: «أود أن أؤكد أن الرئيس بايدن يتمتع برؤية ثاقبة وخبرة متميزة تتسم بالواقعية في كافة الملفات بما فيها ملف العلاقات الثنائية، وأجد أنه قادر بامتياز بحنكته وخبرته أن يصنع حلولا جذرية لكافة المشاكل والتحديات التي تحيط بالعالم والمنطقة، داعيا من الله أن يكلل جهوده بالنجاح والتوفيق والسداد» من الذي تغير؟ هل بايدن أم «المشير»؟، والمشكلة في إمكانية مقايضة المسجد الأقصى بضغط أمريكي يخفف من تعنت أبي أحمد بشأن السد الإثيوبي، ويبدو إنه عاشق للصهيونية مثل «حليفه الجديد» وكان الحد الأدنى الواجب هو فتح معبر رفح بشكل دائم، وتجميد «معاهدة السلام» التي فتحت أبواب الجحيم، الذي اجتاح «القارة العربية» وأخرج من رحمه «صفقة القرن» واكتملت بتهويد عدد من الحكومات العربية(!!).
كاتب من مصر