أعراس غزّاوية مؤجّلة… إلى الأبد!
الأخبار- يوسف فارس
تروي الأم: «سهر في منزلنا حتى منتصف الليل. كنا نتجمّع في المنزل في انتظار الفرح، وكلّما رآني، غنّى لي أغنية زواج العيد». تنهمر الدموع من عينيها، ثمّ تميل برأسها إلى كتف ابنتها التي لم تنطق إلّا بجملة واحدة كرّرتها طوال وجودنا: «رح يرجع… رح يرجع، لسّا العيد ما أجى». أما حماه، أبو حسام، فيقول: «ليلتَها، خرج من البيت وكنّا في انتظاره… جلسنا على باب البيت، كلّ شباب العائلة والأطفال». ساعة أو اثنتان، لا يدري الأب المكلوم كم بقي شباب العائلة يهزجون المواويل في حضوره، لأن «لحظات الفرح تمرّ سريعاً». يُكمل الرجل الذي تقول تجاعيد وجهه إنه يغلق أبواب الخمسينيات: «أحمد كان سعيداً جداً بحجم بساطته… جمع تكاليف فرحه من عمله في مزرعة العائلة، يوماً بيوم». ويستطرد من دون أن نسأل عن التفاصيل: «مثل ما بقلك، يوم بيشتغل بـ100 شيكل (30$) بيشتري فيهن شوية ملابس لرجاء، وبعده بيشتغل بـ80 شيكل بيجيب زجاجة عطر وبيزورها».
العريس الذي لم يتجاوز الـ19، شاهَد عروسه التي تدرس تربية أطفال، لأوّل مرّة، لدى خروجها من جامعتها. يبتسم حماه، والد رجاء، ويقول: «يومها، لم تلاحظ رجاء تتبعه لها، لكن تكرار انتظاره لها طوال شهر كامل ومراقبتها حتى تصل منزلها دفعها إلى أن تخبرني… في اليوم التالي، جاء وحده إلى المنزل طالباً يدها». يتابع أبو حسام: «كنّا نحبه مثل واحد من أولادنا. أمه استشهدت في حرب 2014، فكانت أم حسام وأمي بيشعروا إنو من واجبهم يعوّضوه عن كلّ شيء». لكن أحمد قضى في أولى ساعات الحرب. في السادسة والدقيقة الـ20 من مساء الإثنين، الحادي عشر من الشهر الجاري. كان أحمد في حقله الملاصق للحدود الشرقية لبيت حانون، أقصى شمال القطاع، برفقة عدد كبير من أفراد عائلته، وفجأة أطلقت طائرة إسرائيلية مُسيّرة صواريخ عليهم، ما تسبّب في مجزرة أودت به مع تسعة آخرين من أفراد أسرته، بينهم خمسة أطفال.
بحث عنها تحت الأنقاض
قصّة أخرى لا تقلّ إيلاماً، بطلها أنس اليازجي الذي غيّرت الشمس ملامح وجهه بعدما قضى ستّ ساعات متواصلة وهو يبحث عن خطيبته شيماء أبو العوف تحت أنقاض منزلها. شيماء طالبة في طبّ الأسنان، وبدأت حكاية حبّه لها منذ ثلاث سنوات، منها سنتان ونصف سنة من الخطوبة، كان من المقرّر أن تتوَّج بإتمام الزواج بعد عيد الفطر بشهر واحد. يقول الشاب اليازجي: «جهّزنا الشقة، واشترت كلّ جهازها، وكنّا في انتظار الفرح». انتهت قصة الحب باستشهاد شيماء إثر قصف منزلها في شارع الوحدة وسط مدينة غزة. يقول أنس مستذكراً اللحظات الأخيرة: «أرسلت إليها عبر واتسآب بعدما سمعنا أوّل غارة، فسألتها عن حالها وردت: أنا بخير لكن خايفة». يكمل الشاب العشريني: «كتبت لها: اختبئي، لكن الرسالة لم تصل». في النتيجة، استشهدت أبو العوف برفقة 14 من أفراد عائلتها منتصف ليلة السادس عشر من الشهر الجاري، بعدما هوى البيت المُكوَّن من أربع طبقات على رؤوسهم.
زينة الفرح باقية
لا تزال عائلة العريس الشهيد محمد جمال أبو سمعان تُعلّق ما تبَقّى من زينة الفرح الموضوعة قبل شهر ونصف شهر من اليوم. كان منزل العائلة البسيط في حيّ الشيخ عجلين غرب مدينة غزة يضجّ بالفرح الذي أراده ابن الرابعة والعشرين بسيطاً. شباب العائلة والأصدقاء المقرّبون فقط جمعتهم ليلة السمر التي سيكون عليهم أن يحفظوا تفاصيلها جيداً. «بسيط وهادئ، محبّ جداً للحياة بالقدْر الذي يعرف كلّ من يحيط به أنه مشروع شهادة»، يقول زوج أخته، محمود. ويكمل: «لا أحد على علم بطبيعة عمله المقاوم».
أمّا عروسه سها، وهي مهندسة ديكور، فتستذكر كيف نافسها عريسها الوسيم في تخصّصها الذي درسته بشغف، وكيف بنى محمد شقة العمر بأقلّ الإمكانات، معتنياً بأدقّ التفاصيل: «الشبابيك من خشب المشاطيح الذي يوحي بالعراقة والأصالة، صالة المعيشة تملأها رفوف زاهية رُصفت عليها الزهور على نحو شديد التناسق، غرفة النوم ذات اللون الأزرق السماوي والسرير الأبيض الثلجي». تحيط زوجته عنقها بشالٍ وردي كان قد اشتراه لها قبل رحيله. «محمد له رأي مغاير في الديكور، وهو أن البساطة هي الجمال». في صبيحة اليوم السابع من الحرب، قضى محمد في اغتيال استهدف سيارة تقلّه مع اثنين من رفاقه بالقرب من ميناء غزة. «كأنّنا في حلم لم يكتمل»، تقول شقيقته الصحافية سلسبيل. وتضيف: «لا نزال نعيش أجواء الفرح الذي انتظرناه طويلاً… لا نزال في أجواء الفرح أيّاً كان مكانه، في الأرض أو السماء».