تحقيقات - ملفات

برّي: توقّعت تراجع الحريري وانتخابه لعون

نبيل هيثم -أساس ميديا- الثلاثاء 25 أيار 2021

صدر للزميل نبيل هيثم كتاب من إصدار “دار بلال للطباعة والنشر” في آذار 2021، يتناول فيه مذكّرات ووقائع محطّات مشوّقة من الدروس السياسية يقصّها الرئيس نبيه بري عن كثب، وشارك في اتّخاذ أكثر من قرار مفصليّ فيها.

وقد عرّف الزميل نبيل هيثم كتابه “الثقب الأسود” بالقول في نهاية المقدّمة التي عنونها  “أوّل الكلام.. تحية وسلام”:

“برعاية مباشرة من دولة الرئيس، وُفِّقتُ في إعداد هذا الكتاب، متضمّناً ما يجب أن يُعرف عن نبيه برّي، وما يجب أن يُحكى ويُقال عن محطّات غنيّة وغاية في الأهميّة، عبرها نبيه برّي منذ عام 2005، ويسرد وقائعها وأحداثها ويوميّاتها بين دفّتيْ هذا الكتاب”.

تقديراً للقامة الوطنية التي يمثّلها الرئيس نبيه برّي، وإسهاماً في فتح النقاش والحوار حول هذه المحطّات، ينشر “أساس” أجزاء من الكتاب في سلسلة من الحلقات.

في الحلقة الخامسة والأخيرة يروي الرئيس برّي حكاية الساعات التي سبقت انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة.

 

كان الاستحقاق الرئاسي أشبه بالدوّامة، وعلى باب تشرين الأوّل 2016، كان الرئيس سعد الحريري لا يزال ملتزماً بترشيح النّائب سليمان فرنجيّة ربطاً بالاتّفاق الذي تمّ بينهما في باريس، ولو أنّ جلسة انتخاب رئيس الجمهورية عُقدت في ذلك الوقت، لكان النّائب فرنجيّة رئيساً للجمهورية، لكونه كان يحظى بتأييد ما يزيد على سبعين نائباً، وكتلة التنمية والتحرير تبنّت ترشيحه علناً آنذاك. لكنّ هذه الجلسة لم تنعقد بالنّظر إلى عدم نضوج توافق عليها.

في هذه الأجواء، فاجأ سمير جعجع الجميع بتبنّيه ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وكان واضحاً أنّ هذا التبنّي هو لقطع الطريق أمام فرنجيّة. كان الرهان آنذاك أن يبقى الرئيس سعد الحريري متمسّكاً بترشيح فرنجيّة. وأذكر أنّني، في تلك الفترة، التقيت الحريري، وقلت له “أنا أدعمك، لكن لن أكون ملكيّاً أكثر من الملك. هذه معركتك، وعليك أن تتحمّل المسؤولية. وأنا مستعدّ لأن أساعدك إن بقيت ماضياً في دعم النائب فرنجيّة”.

لم يخفِ عليّ الحريري آنذاك أنّه يشعر بالإرباك ويتعرّض للضّغوط، فأصررت عليه أن يصمد.

إلّا أنّ الأمر سرعان ما تبدّل، وحصل ما كنت قد توقّعته من البداية، إذ بدأ الحريري يسلك طريق التراجع عن ترشيح فرنجيّة، والتمهيد لترشيح العماد ميشال عون.

أودّ أن أشير، هنا، إلى أنّ الحريري لم يمهّد الأرض سابقاً لمبادرته ترشيح فرنجيّة، بمعنى أنّه لم يحصّنها كما يجب، ولم يمهّد، كما يجب، لا داخل كتلته النيابيّة ولا خارجها، لخطوة التراجع عن ترشيح فرنجيّة.

أولى خطوات التراجع تجلّت في اللقاء المطوّل الذي عقده الحريري مع العماد عون في الرّابية أواخر أيلول 2016. يومئذٍ، وقبل أن ينتقل الحريري إلى الرّابية للقاء العماد عون، التقى النّائب فرنجيّة.

أذكر أنّ فرنجيّة تواصل معي في ذلك الوقت، ولم يكن مرتاحاً، وأطلعني على بعض ما دار بينه وبين الحريري، فقلت له إنّني لست مستغرباً، لأنّني كنت أتوقّع ذلك.

 

أبلغني فرنجيّة بأنّه قال للحريري خلال لقائهما: “كنّا قد اتّفقنا معاً على أمرين: الأوّل، أنّك إذا أردت التراجع عن ترشيحي، فستفعل ذلك بالتنسيق معي ومع الرئيس نبيه برّي والنّائب وليد جنبلاط، وما دمت ستتراجع، فلماذا لا نعقد لقاءً اليوم أنا وأنت والرئيس برّي وجنبلاط لحسم الأمر. والأمر الثاني هو أنّنا اتّفقنا على أنّك إن قرّرت أن تتراجع عن دعمي، فلا تدعم ترشيح عون، بل أن نذهب إلى خيار ثالث”.

فردّ الحريري على فرنجيّة، وقال له: “أنا مستعدّ لأن أنتخبك غداً، لكن أنت تعرف أنّ الرئيس برّي لم ينَل موافقة حلفائكما على انتخابك، ولا نستطيع الاستمرار في هذا الأمر. وأنا حالياً لست في صدد إعلان دعم ميشال عون، بل إنّ ما أقوم به هو مجرّد تشاور للخروج من حال المراوحة”.

وأودّ أن أشير هنا مجدّداً إلى أنّ “حزب الله سبق أن حسم موقفه وأيّد علناً ميشال عون مرشّحاً نهائياً. منذ البداية لم يكن موقفنا واحداً في ما خصّ الاستحقاق الرئاسي. فالحزب له مرشّحه، وأنا لي مرشّحي”.

بات محسوماً، بعد لقاء الرّابية بينهما، أنّ الحريري قرّر تبنّي ترشيح العماد ميشال عون، لكنّه قرّر تأجيل إعلان ذلك إلى ما بعد عودته من جولة خارجيّة تقوده إلى المملكة العربيّة السعوديّة وروسيا وتركيا ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة. وهذا ما علمته من أجواء اللقاء بين الحريري وعون، التي نقلها إليّ الحاج حسين خليل، بحسب ما تبلّغها من جبران باسيل. وقال لي حسين خليل إنّ “المداولات بين الحريري وعون كانت إيجابيّة جدّاً، وهناك تقارب كبير في المواقف، وتمّ التوافق بينهما على أن يعلن الحريري دعمه عون. واتّفقنا على أن لا يكون إعلان تأييد الترشيح من الرّابية، بل أن يتولّاه الحريري من بيت الوسط”.

لكنّني فوجئت، في ذلك الوقت، بتسريبات متتالية من جانب “التيّار الوطني الحرّ” ووسائل إعلامه، مهّدت لحملة مركّزة ضدّي، وصارت تروّج أنّ نبيه برّي يعمل ضدّ الدستور، وأنّه هو وحده لا يزال رافضاً لعون ومانعاً لانتخابه في مواجهة شبه الإجماع عليه. فلم أترك هذا الكلام يمرّ، فرددت على المتحاملين عليّ، وقلت لهم إنّ “الوقت ليس للمراهقة السياسيّة. ولِمَن يتّهمونني بالعمل ضدّ الدستور، أقول لهم، أنتم تعلمون علم اليقين أنّني أنا نبيه برّي الأكثر حرصاً على الدستور، والأكثر التزاماً بأحكامه. أتحدّاكم أن تثبتوا صدقيّتكم. لقد مارسنا ونمارس الالتزام بأحكام الدستور قولاً وفعلاً. وكتلتي النيابيّة هي الوحيدة التي لم يتغيّب أعضاؤها عن حضور جلسات انتخاب رئيس الجمهورية.. فإذا كنتم حريصين على الدستور أكثر منّي، تفضّلوا انزلوا إلى المجلس لننتخب رئيساً بحسب الدستور”.

بعد لقاء الرّابية بين الحريري وعون وما اتّفقا عليه، صار الكلّ في البلد يتصرّفون على أساس أنّ العماد عون صار رئيساً للجمهورية، ولكن مع وقف التنفيذ، وأنّ المسألة صارت مسألة وقت قصير.

أمّا أنا، شخصيّاً، فكانت الصورة واضحة أمامي، وحاولت، في الفترة الفاصلة عن موعد انتخاب الرئيس، أن أقود الموقف باتّجاه إيجاد نوع من التفاهم المسبق على ما بعد الرئاسة، وفق السلّة التي طرحتها واعتبرتها الممرّ الإلزامي والضروري لاستقرار الوضع السياسي، وللحفاظ على المؤسّسات الدستوريّة، وللحلّ المتكامل بدءاً بانتخاب رئيس الجمهورية.

يومئذٍ أعلنت أنّ الأوان لم يفُت بعد، وهناك خارطة طريق ينبغي سلوكها للوصول إلى الاستحقاق الرئاسي المطلوب، إذ من شأن هذه الخارطة أن تزيل من طريق العهد الرئاسي المقبل الكثير من المطبّات، وترتكز على الآتي:

أوّلاً، عودة وزيريْ “التيّار الوطني الحرّ” إلى الحكومة، وحضور جلساتها، التي قاطعوها من دون مبرّرات مقنعة.

ثانياً، عودة نوّاب التيّار إلى مجلس النوّاب والمشاركة في جلساته، وعلى وجه التحديد في جلسة المجلس الأولى ضمن العقد العادي، الذي يبدأ في 18 تشرين الأوّل 2016. فبهذا الحضور يتراجع التيّار عن اتّهاماته للمجلس النيابي بأنّه غير شرعي، ويعترف العماد ميشال عون بشرعيّة المجلس الذي يريد أن ينتخبه.

ثالثاً، إعادة إحياء طاولة الحوار، التي تضمن مشاركة الجميع في إنتاج سلّة الحلّ الرئاسي، وتضمن الاتّفاق على مرحلة ما بعد الرئاسة، من الحكومة إلى قانون الانتخابات النيابيّة، بمعزلٍ عن المرشّح.

ومع ذلك، ظلّ الهروب مستمرّاً من “سلّة التفاهم”، وبقوا مركّزين على هدف آخر ووحيد. أذكر، في تلك الفترة، أنّ وزير الطاقة، آنذاك، جبران باسيل زار عين التينة تحت العنوان النّفطي، وتحادثنا مطوّلاً، وتوافقنا على كثير من النّقاط حول الملفّ النّفطي. وفي نهاية الحديث قام ليودّعني، ثمّ توجّه صوب باب مكتبي ليغادر، لكنّه ما لبث أن توقّف عند الباب، والتفت إليّ، وقال لي: “ما دمنا قد اتّفقنا على ملفّ النّفط، فماذا عن الملفّ الآخر، الذي لا يقلّ أهميّة؟”.

فهمت مقصده، لكنّني تعمّدت ألّا أظهر ذلك، فسألته مرفقاً كلامي بابتسامة معبّرة: “عن أيّ ملفّ تتكلّم؟”.

فقال: “عن رئاسة الجمهورية”.

فقلت: “كلّو بوقتو”.

ظنّ باسيل أنّني أمزح. فكرّر سؤاله: “جدّيّاً، بالنّسبة إلى موضوع رئاسة الجمهورية، شو رأيك؟”.

فقلت له: “ما على أساس إنّو المجلس النيابي غير شرعي وغير دستوري، ورئيسه غير شرعي وغير دستوري؟!”.

حاول باسيل أن يبرّر ويوحي بأنّ هذا الكلام هو كلام سياسي.

فقلت: “أنا لا أفهمه كلاماً سياسيّاً، بل أفهمه كلاماً مهيناً للمجلس النيابي وكرامته. وبالتأكيد هو كلام مهين لرئيس المجلس وكرامته. وفي أيّ حال، وكما قلت لك، كلّ شي بوقتو حلو”.

وغادر باسيل من دون أن يأخذ منّي شيئاً يرضيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى