تحقيقات - ملفات

تجديد “صداقة” باسيل والحريري…

تجديد “صداقة” باسيل والحريري…

إيلي القصيفي -أساس ميديا- الثلاثاء 25 أيار 2021

الخلاصة الرئيسة لجلسة مجلس النواب السبت هي أن لا أحدَ من الأفرقاء الثلاثة المعنيّين مباشرة بتشكيل الحكومة، أي العهد والرئيس المكلّف وحزب الله، يستعجل تشكيلها. بينما تدلّ إدارة الرئيس نبيه برّي للجلستين المتتاليتين الجمعة والسبت، ومضمون كلامه في ختام الجلسة الأخيرة، على أنّه يتمايز عن هؤلاء الأفرقاء الثلاثة في استعجال تشكيل الحكومة. وذلك لأنّ الحدّة الاستثنائية للصراع حولها تجعل انخراط رئيس المجلس فيه مكلفاً جدّاً له سياسياً، وتحديداً بحكم موقعه الدستوري.

فلو كان برّي طرفاً رئيساً في هذا الصراع لَما كان استطاع إدارة الجلستين بالطريقة التي أدارهما بها. ولا تخوّله مسيرته السياسية اتخاذ خيارات راديكالية كتلك التي يتّخذها حزب الله والتيار الوطني الحر في ما يخصّ تعديل الدستور والتنصّل من اتفاق الطائف. لكنّ رئيس المجلس، في المقابل، ملزمٌ بالسير بين ألغام خريطة تحالفاته وتفاهماته السياسية مع حزب الله والرئيس سعد الحريري والنائب وليد  جنبلاط. وهو مسيرٌ يصبح صعباً ومتعباً عندما يكون موقف حزب الله أقرب إلى التيار الوطني الحر من أيّ فريق آخر.

في إطار هذه الخلاصة الرئيسة لجلستيْ الجمعة والسبت، يمكن قراءة الكثير من ملامح المشهد السياسي الراهن، الذي يراوح بين ديمومة المفاعيل الأساسية للستاتيكو السياسي، الذي أنتجته تسوية عام 2016، وبين محاولات إسقاط هذا الستاتيكو أو إدخال تعديلات عليه.

تحاول القوات اللبنانية، من خلال مطالبتها بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، زعزعة هذا الستاتيكو. لكنّ محاولتها تلك تبدو وكأنّها قنبلة صوتية لأنّ أياً من القوى السياسية الرئيسة لا يجاريها حتى الآن في مطلبها. ولأنّها توحي بأن الإنتخابات المبكرة يُمكنها أن تعدّل في موازين القوى، وهذا أمرٌ شبه مستحيل في ظلّ القانون الانتخابي الحالي، إلّا إذا حصلت معجزة، والسياسة لا تعترف بالمعجزات.

أمّا النائب جبران باسيل والرئيس سعد الحريري فكلاهما يطمح لإعادة إنتاج تسوية عام 2016 بشروط جديدة، كلٌّ منهما يسعى إلى أن تكون لمصلحته. علماً أنّ أي تسوية حكومية جديدة بين الرجلين لا بدّ وأنّ تشمل اتفاقاً أوّلياً بينهما حول رئاسة الجمهورية المقبلة.

فعلى الرغم من السقوف المرتفعة لخطابهما في جلسة السبت، فإنّ أياً منهما لم يعطِ إشارات انقلابية على أصل تلك التسوية. ويمكن الاستدلال على ذلك من تزامن إرسال رئيس الجمهورية رسالته إلى المجلس النيابي، التي فُسِّرت بأنّها محاولة لسحب التكليف من الحريري، وهي محاولة مستحيلة، مع إرسال العهد والتيار إشارات إعلامية وسياسية مختلفة تؤكّد التمسّك بتكليف الحريري، وهو ما قاله باسيل علانيّة في كلمته المكتوبة السبت.

فالحريري، وعلى الرغم من السقف العالي لخطابه ضدّ رئيس الجمهورية، فهو لم يطالب باستقالته، مع أنّ اتّهام رئيس “المستقبل” لعون بأنّه طلب من النوّاب أن “يخلصوه منه” كان كافياً ليردّ عليه بالمطالبة باستقالته، أو وضع اعتذاره عن تشكيل الحكومة في مقابل استقالة رئيس الجمهورية من منصبه. إضافةً إلى أنّ اتهام الرئيس المكلّف لعون بأنّه “عطّل الدستور، ويعطّل الحياة السياسية في البلاد. والأخطر من ذلك، يعطّل أيّ أمل أمام اللبنانيين بوقف الانهيار المريع”، لا يأخذ معناه السياسي الحقيقي إذا لم يكن مقروناً بالمطالبة باستقالته.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ الحريري لا يريد إسقاط مفاعيل تسوية 2016، بل يريد، كما باسيل، إعادة انتاجها مع إدخال تعديلات عليها. وهي تعديلات تتيحها، بالنسبة إلى الحريري، المبادرة الفرنسية في طرحها حكومة اختصاصيين تمكِّن الحريري، في حال نجح في تشكيلها، من التخفيف، ولو جزئيّاً، من الأعباء السياسيّة التي يفرضها العهد والتيار على أيّ حكومة سياسيّة بحت.

ومن جانب باسيل والعهد، فإنّ شرط إعادة إنتاج التسوية مع الحريري يتمثّل في تأليف حكومة يخوّلهما حجمُ تمثيلهما فيها أن يكرّس كلّ منهما نفوذه السياسي في تركيبة الحكم استعداداً للاستحقاقات السياسية المقبلة، سواء الانتخابات النيابية أو الرئاسية. ويشكّل أيضاً حصولهما على الحصّة الحكومية، التي يطالبان بها، عاملاً سياسياً مساعداً في مساعيهما الحثيثة لرفع العقوبات الأميركية عن باسيل، مع أنّه ليس عاملاً حاسماً أبداً بالنظر إلى طبيعة هذه العقوبات. ولذلك لا يمكن تصديق نفي باسيل مطالبة التيار والعهد بالثلث المعطِّل العلني أو الموارب، لأنّهما لن يوافقا على حكومة لا يكونان قادرين فيها على تعطيل أيّ قرار لا يرغبان به، بمعزل عن تأييده أو رفضه من قبل حزب الله حليفهما الرئيس. لأنّ طبيعة المرحلة المقبلة تطلب هامشاً سياسياً أكبر للعهد والتيار. وكلّ معاركهما الحالية هي من أجل تحقيق هذا الهامش.

في هذا السياق، تشير أوساط إلى أنّ العهد يريد حصول اللقاء بين باسيل والحريري كتوطئة للبحث في إمكانات إعادة إنتاج التسوية، وإلى أنّه قدّم عرضاً للحريري يفيد بإمكان انتظاره إلى أن يرتّب وضعه مع المملكة العربية السعودية بمساعدة مصرية وإماراتية وفرنسية. وفي المقابل يسعى العهد إلى ترحيل الاستحقاقات الداهمة من أمام الحريري، وفي مقدّمها “رفع الدعم”، وهو ما أوحى به باسيل السبت.

ماذا عن حزب الله وسط كلّ هذه المعمعة؟

الجواب عن هذا السؤال يبدأ من كلام النائب محمد رعد في جلسة السبت، الذي لم يتضمّن أيّ إشارة إلى استعجال الحزب تشكيل الحكومة. فقد كرّر موقف الحزب الساعي إلى الموازنة بين مطالب كلٍّ من الحريري والعهد مع انحياز ضمنيّ إلى العهد، لكن ليس إلى حدود إسقاط هذه الموازنة. وتؤكِّد هذا الموقف جملتان قالهما رعد. ورد في الأولى الكلام التالي: “ليس متاحاً في الأزمات أن يحصل طرف على كل ما يريد، وليس مطلوباً أن يتخلّى طرف آخر عن كل ما يريد. يمكن تشخيص الحدّ الأدنى المطلوب لسير الحكومة خلال هذه المرحلة، فنتفاهم على ذلك”. وهذه الجملة تمثّل منطق الموازنة المذكورة. أمّا الجملة الثانية فتقول إنّ “النص الدستوري (…) يؤكّد أنّ الاتفاق بين دولة الرئيس المكلّف وفخامة رئيس الجمهورية، هو أصل يصدر عنه مرسوم تشكيل الحكومة، وأنّ توقيعهما معاً على مرسوم التشكيل هو فرع لذلك الأصل”. وهنا يلاقي الحزب دعوة التيار الوطني الحر إلى تعديل الدستور لهذه الناحية لأنّه “لا يضع المهل، وهذه مشكلة. ويجب تطويره من هذه الناحية للمحافظة عليه”، كما قال باسيل في كلمته السبت.

هكذا يدير الحزب اللعبة من الخلف، لكنّ الحزب، بخلاف الحَكَم السوري للعبة بين 1990 و2005، لا يحسم الخلاف بسرعة بين أطراف اللعبة، بل يتركه يطول إلى حين تدقّ ساعته الإقليمية، فيتدخّل للحسم. ففي ظلّ الوقت المستقطَع بين وقوع الخلاف وحلّه، يرسم الحزب حدوداً للصراع، ويتدخّل لمنع أيّ طرف من تجاوزها. وهذه إدارة غير متعبة له، لأنّ طرفيْ الصراع حول الحكومة، أي العهد والحريري، غير مستعدّيْن أبداً لتجاوز هذه الحدود، وهو ما أكّدته مجريات جلسة السبت.

ولعلّ إدارة الصراع أو التجاذب بين عون وبرّي، أصعب على الحزب من إدارة خلاف العهد وباسيل مع الحريري. وذلك لأنّ الأسباب السياسية المذهبية لتحالف الحزب مع برّي لا تقلّ أهمية عن الأسباب السياسية والطائفية لتحالفه مع عون. والسؤال في هذا السياق: كيف يتصرّف الحزب إزاء دعوة باسيل إلى عقد جلسة حوار في بعبدا حول تشكيل الحكومة؟ وهي دعوة موجّهة في الأساس ضدّ برّي الذي بحث في الأيام الماضية، بحسب الأوساط، عن إمكان تحويل جلسة نقاش رسالة رئيس الجمهورية إلى جلسة حوار نيابي حول الحكومة، فجاء الردّ من باسيل، الذي لم يشأ تقديم هديّة لبرّي من هذا النوع تجعله حَكَماً في الصراع القائم. وهو الدور الذي كان يُفترض برئيس الجمهورية أن يقوم به، لكنّه اختار أن يكون طرفاً في الصراع لا حَكَماً بين أفرقائه.

سؤال آخر تطرحه مجريات جلسة السبت: ما مدى استعداد كلّ من باسيل والحريري للاستفادة من خصومتهما الراهنة لاستنهاض قاعدتيْهما الطائفيّتيْن؟

العرض الذي قدّماه السبت، يوحي باستعداد مقيم لديهما لذلك، لأنّ الخصومة بينهما لا تمنع أن يحتاج أحدهما إلى الآخر… كصديقين لدودين!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى