بروفيسور جاسم عجاقة-الديار

صار الإذلال من ركائز يوميات اللبناني في كل من المستشفيات، والصيدليات، ومحطّات الوقود، إضافة الى الغذاء (السوبرماركات). هذا الإذلال ضريبة «مضافة بلا إضافة» على المواطن اللبناني. ففي حين تُدفع الأموال من دولاراته المصرفية من جهة، فهويُحرم منها بحكم التهريب والإحتكار من جهة أخرى! وهذا يعني خسارة مزدوجة يقابلها ربح مزدوج من الطرف الآخر وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بـ (zero sum game).

لا نعلم في ظل الأنظمة الديموقراطية في العالم أجمع أن ذاق شعب ما يعيشه الشعب اللبناني بفضل السلطة الحاكمة. وحدها الديكتاتوريات طبقت هذا النوع من المعاملات من قبل السلطة تجاه شعوبها.

كارتيلات المحروقات، والأدوية والأغذية تعبث بأمن المواطن الاجتماعي؛ فهي تحتكر السلع والبضائع وتُهرّبها مُحقّقةً أرباحًا تفوق الـ 500% على ثرواتهم بالليرة اللبنانية والتي إستطاعوا تحويلها إلى الدولار الأميركي من خلال دعم مصرف لبنان ومن ثم حوّلوها إلى الخارج!!! والأنكى في الأمر أن كل هذا يحصل تحت أنظار الدولة اللبنانية الموكلة بحسب الدستور الدفاع عن المواطن وعن أمنه الغذائي، لكن هذا الأمر لا يحصل للأسف لسببين، أحدهما تقاطع المصالح والثاني شحّ المداخيل التقليدية التي كانت تُموّل أصحاب النفوذ.

إن إرغام مصرف لبنان على تقديم ما يُسمّى بـ «الدعم» للتجّار والمستوردين يطرح أسئلة عدة. فبعد أكثر من 30 عامًا من الإحتكار الذي حمته السياسة المالية للحكومات والتي موّلتها عبر آلية الإستدانة الفاحشة غير المدروسة، يستمر هذا الإحتكار بشكل مُريع متجاهلة أولى الخطوات الأساسية للتخفيف عن كاهل المواطن في هذه الأوضاع إلا وهي تحرير كل القطاعات من دون أي إستثناء من الوكالات الحصرية لاستيراد المواد الأولية الأساسية والغذائية! فهل يُعقل أن الأسعار التي تُفرض على اللبنانيين، مُرتفعة إلى هذا الحدّ؟ هل يُعقل أن ثمن صفيحة البنزين عند الشراء هي 15 ألف ليرة و40 ألفاً عند المبيع؟ هل يُعقل أن يتمّ تهريب الأدوية بهذا الشكل الفاضح؟ هل يُعقل أن تُباع المواد الغذائية المدعومة في أقاصي المعمورة؟

البيان الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 21 أيار 2021، يكشف بشكل مُريع منظومة تهريب الأدوية والمستلزمات الطبّية وحليب الرضّع والمواد الأولية للصناعة الدوائية القائمة. فخلال العام 2020، دعم مصرف لبنان هذا القطاع – بناءً لطلب التُجّار – بـ 1173 مليون دولارًا أميركيًا (الأجدى بنا القول إن مصرف لبنان باع هذه الدولارات لهذا القطاع على سعر الصرف الرسمي).وقد قامت منظومة التهريب القائمة الآن بطلب المزيد من الأموال واضعةً حاجات وضروريات المواطن اللبناني رهينة، لإرغام مصرف لبنان على بيعها الدولارات بالسعر الرسمي، فإرتفع الطلب على الدولارات لدعم هذا القطاع إلى 1232 مليون دولارً أميركيً في فترة لا تتعدىالخمسة أشهر من العام 2021! أي بأكثر من الضعف خلال سنة واحدة فقط!!!

أمّا المحروقات فحدّث ولا حرج! فإستخراج تركيبة الأسعار من على موقع وزارة الطاقة والمياه في تاريخ سابق (21/4/2021)، يُشير إلى أن ثمن صفيحة البنزين 95 أوكتان عند الشراء بلغ 15590 ليرة لبنانية في حين أنها كانت تُباع بـ 38395 ليرة لبنانية على محطات الوقود بفارق 22805 ليرات لبنانية للصفيحة الواحدة. والمُلفت في الأمر أن الرسوم على هذه الصفيحة تبلغ 32.46% من سعر الشراء، والعمولة الإضافية المؤقتّة تبلغ 65% من قيمة الصفيحة عند الشراء (مع العلم انه مكتوب في جدول تركيب الأسعار أنها لتغطية شراء دولارات توازي 10% من قيمة السلعة غير المدعومة من مصرف لبنان وبالتالي هي متحركة مع سعر الصرف في السوق السوداء)، وحصة شركات التوزيع 1.92%، وأجرة النقل 3.46%، وعمولة صاحب المحطّة 19.24%، إضافة إلى الضريبة على القيمة المضافة 24.41% من قيمة الصفيحة عند الشراء.

إذًا وبالنظر إلى الأرقام نرى أن عمولة الشركات المستوردة وشركات التوزيع ومحطات الوقود تصل إلى 13940 ليرة لبنانية في حين أن حصّة الدولة تصل إلى 8865 ليرة لبنانية على سلعة ثمن شرائها هو 15590 ليرة لبنانية.

وهنا نطرح الأسئلة التالية: لماذا تصل كلفة العمولة للشركات إلى 90% من ثمن كلفة الصفيحة على الشراء؟ لماذا يُطلب من مصرف لبنان تأمين الدولارات في حين يتمَ تهريب هذه المحروقات إلى الخارج؟ والأهمّ من ذلك كله لماذا لا يتمَ تحرير هذا القطاع لكي يتمّ إستيراد المحروقات من قبل شركات خارجية أو داخلية أخرى قادرة على تأمينهابأسعار أدنى؟

من الواضح أن تركيبة الأسعار هذه تُظهر أن لا تنافسية في هذا القطاع بحكم أن النظرية الإقتصادية تنصّ على أن سعر المبيع يقترب من سعر الشراء مع إرتفاع التنافسية. وبالتالي هذا الأمر يطرح العديد من الأسئلة على العلاقة المُريبة التي تربط شركات النفط مع أصحاب النفوذ وخصوصًا تقاطع المصالح التي يدفع ثمنها المواطن.

وما يحصل في المحروقات يعاد ويطبق على المواد الغذائية ولكن بطريقة مختلفة ظاهرياً… فماذا نقول عن المواد الغذائية التي يتمّ تهريبها إلى كل دول العالم؟ هذه المواد تم شراؤها واستيرادها من قبل التجّار بالدولارات علىالسعر الرسمي لشرائها وإستيرادها على أساس الحاجة المحلية، فكيف تمّ تهريبها إلى الخارج؟ الإحتمالان المُمكنان نظريًا هما: (1) تدخل هذه المواد إلى لبنان ومن ثمّ يُعاد بيعها إلى الخارج وهذا إن صحّ يكون على مرأى من السلطات الرسمية، أو (2) لا تدّخل هذه المواد إلى لبنان على الإطلاق بل يتمّ نقلها مباشرة من مكان الشراء إلى مكان البيع (خارج لبنان) وهذا إن صحّ يطرح السؤال عن دور وزارة الاقتصاد والتجارة في ملاحقة البضائع والسلع المدعومة.

وهنا يُطرح السؤال عن دور التجّار في عملية التهريب هذه؟ من هم المُشاركون؟ ولماذا المستوردون غير مطالبين بالتصريح لوزارة الاقتصاد والتجارة لمن باعوا هذه السلع والبضائع؟ وكيف خرجت الأموال من لبنان ولم يدخل مقابلها بضائع ولا أموال أخرى؟

على كل الأحوال، عارٌ على كل من يُهرّب، وعارٌ على كل من يُشارك، وعارٌ على كل من يُسهّل أو يتغاضى عن عمليات التهريب! إنها جريمةبحق المواطن اللبناني وتستحق محكمة دولية نظرًا إلى كونهاجريمة موصوفة. فالدولة، التي أعلنت إفلاسها، تفرض بالقوّة على مصرف لبنان تقديم الدعم. هذا الدعم الذي يرفضه الشعب نظرًا إلى أنه لا يستفيد منه، فهو يُؤخذ من أمواله ويتمّ تهريبه إلى الخارج تحت أنظار الأجهزة الرسمية والحكومة التي فقدت ثقة كلاً من الشعب والمُجتمع الدولي على حد سواء، لا بل أصبح السياسيون أنفسهم يجاهرون بعدم ثقتهم بالنظام الحاكم (؟!!).

إن غياب الحكومة أدّى إلى دمار إقتصادي وإجتماعي ومالي ونقدي وصار يعكس رغبة عمياء في الإنتقام من الشعب اللبناني. فاللبناني يغرق يومًا بعد يوم في الفقر من دون أن يرف جفن أهل «الحل والعقد» بضرورة تخطّي الخلافات السياسية والتوافق على حكومة قادرة على الإنقاذ. إن عدم الاتفاق على مسلّمات حول إجراءات أساسية تُخفّف من وطأة الكارثة على المواطن تطرح فرضية أن هناك أمرًا آخر يتخطّى حتى فكرة الإنتقام من الشعب اللبناني ويرسم لشيء أشد ضراوة.

في خِضَم جميع ما يحصل، يعيش المواطن اللبناني في كنف «شبه – دولة»مشلولة وعاجزة عن أبسط أنواع تطبيق للقوانين؛فصارت مكوّنات المجتمع اللبناني تتصرّف وكأنها تعيش في ظل «فراغ» أو «تعطيل» قانوني. فما يقوم به التُجّار من دون حسيب أو رقيب ومن دون تحرّك من قبل القضاء، هو أكبر دليل على نجاح مخطط تفكيك الدوّلة ومؤسساتها.

ولعل المشهد الساطع من مشاهد إنحلال الدوّلة ومؤسساتها، هو عملية تهريب المُخدّرات إلى مصرّ والتي تمّ ضبطها في صيدا. وقد يظّن القارئ أن هذا الأمر غير صحيح، نظرًا إلى أنه تمّ ضبط الشحنة من قبل الجمارك. إلا أن هناك علامات إستفهام عديدة تُطرح حول هذا الموضوع.أوليس على الدولة مسؤولية كشف وضبط هذه الأمور في منشئها؟ أوليس مجرد وصول هذه الشحنات إلى المرافئ دليل تفلت وتسيب في الداخل اللبناني؟ وماذا لو كانت هذه البضائع يتم تداولها بين المواطنين داخل الأراضي اللبنانية، أوليس ذلك عاملاً في تفكك المجتمع المنهك أصلاً؟

للأسف، لقد أصبحت المعابر الشرعية أكثر أمانًا للتهريب من المعابر غير الشرعية، وأصبحت الدوّلة بغيابها عن قمع التهريب ومُكافحته من أصله «مشاركة حكماً» في العمل ضدّ مصلحة المواطن التي يفترض بها – أي الدّولة – أن تكون مؤتمنة عليها وساهرة على تحقيقها، وإلا فعلام يدفع المواطن الضرائب ويساهم في تغطية تكاليف إدارات الدولة وعطاءات مسؤوليها المكلفين من قبل الشعب؟

لقد أصبح من الأمور الملحة وقف الدعمّ على المواد التي يتمّ تهريبها بشكل يومي ومنتظم سيما أنها خسارة مزدوجة للمواطن، وسرقة مزدوجة من قبل التجار المُفسدين، على أن يتمّ ذلك بالتوازي مع تحرير إستيراد كل البضائع والسلع، ومحاسبة المُهربين مع مفعول رجعي نظرًا إلى الضرر الإجرامي الذي طال ولا يزال المواطن اللبناني من حفنة من العصابات التي تتلطّى خلف قوانين «معطلة» وبحماية فاضحة من قبل بعض أصحاب النفوذ الذين عاثوا في الأرض فساداً.

في الختام لا يسعنا القول إلا أنه لا بد لشعب الفينيق أن ينتفض يوماً من سباته العميق ويذر رماده في عيون من خططوا وتعمدوا إحراقه.