… نتنياهو مسؤولاً؟ شمّاعة كذب متواصل
الأخبار- يحيى دبوق
صحيح أن جزءاً من تلك المقاربة حقيقي، إلّا أن جزءها الآخر مغلوط تماماً. نتنياهو لا يمتنع عن فعل أيّ شيء يؤدي إلى تحقيق مصالحه الشخصية، حتى وإن كان على حساب مصلحة إسرائيل الدولة، لكن في المقابل، يبدو أن ثمّة خلطة من المصالح الشخصية لخصومه السياسيين، والتوجيهات الهادفة إلى ستر عيوب إسرائيل ومنع تظهير فشلها، تقتضي القول إن نتنياهو هو سبب الإخفاق، بما يُعدّ أقلّ سلبية على الأمن الإسرائيلي من الحديث عن فشل إسرائيل كدولة، أمام أعدائها. هنا، يمكن الإشارة إلى جملة حقائق لا يجب أن تغيب عن أعين المراقبين، وعلى رأسها أن إسرائيل لا يمكن لها ككيان أن تسمح لرأس الهرم السياسي فيها بفرض إرادته الشخصية عليها. نعم، يمكن لرأس الهرم، وهو نتنياهو في هذه الحالة، أن يستغلّ «إنجازاً» ما لمصلحته عبر توقيت تنفيذه، مثلما يفعل عندما يطلب من الجيش والمؤسسة الأمنية شنّ اعتداءات أو عمليات عسكرية أو اغتيالات، لكن لا يمكنه فرض شيء من أجندته الشخصية نفسها، إن لم تكن المؤسّسة العسكرية والأمنية معنيّة به.
كذلك الأمر لناحية الجهوزية والاقتدار العسكريَّين والإحاطة الاستخبارية. ساحة القرار هنا كانت وستبقى للمستويَين العسكري والأمني. وإن أقدم نتنياهو، بوصفه رأس المؤسسة السياسية، على تشويش هذا الاستعداد، وهو ما لم يحدث، فللجيش أكثر من وسيلة ضغط كي يدفعه إلى التراجع. واحد من الأسئلة التي يمكن أن تعترض رواية مسؤولية نتنياهو، هو سؤال الإخفاق الاستخباري في تقدير نيّة الفصائل في غزة وإمكان مبادرتها إلى البدء بجولة قتالية وتحمّل تداعياتها. فإلى ما قبل دقائق من تساقط صواريخ المقاومة على أهداف إسرائيلية في القدس المحتلة، كان كلّ مَن في إسرائيل، على خلفية تقديرات سائدة ومجمَع عليها لدى الاستخبارات، يؤكد أن حركة «حماس» والفصائل الأخرى غير معنيّة بنشوب مواجهة، أو أيّ عمل عسكري من شأنه التسبّب بمواجهة. هل كان نتنياهو خلف هذا التقدير الذي تسبّب للجيش الإسرائيلي بفقدان عامل المفاجأة؟
الأمر نفسه ينسحب على الاستعداد العسكري، الذي طالما أكد رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، وكبار الضبّاط لديه، أنه وصل إلى حدٍّ يؤمّن لإسرائيل الانتصار في أيّ مواجهة تخوضها ضدّ جبهة واحدة أو جبهات متعدّدة متزامنة، بل إن كوخافي كان يصرّ، إلى حدّ الإفراط، على أن الانتصار سيكون حاسماً وواضحاً ولا لبس فيه. لكن في المواجهة الأخيرة، لم يتحقّق الانتصار أصلاً، حتى يُبحث في ما إذا كان واضحاً وحاسماً. وهو إخفاق عسكري لا يمكن عَدّ نتنياهو مسؤولاً عنه. ولعلّ من أبرز صور هذا الفشل، القصور في استهداف القيادات العسكرية للمقاومة، والتي تسبّبت بإطالة أمد المعركة أياماً، بعدما كان الأمل معقوداً على أن تتسبّب تصفيتهم في تغييرٍ ما في وعي الجمهور الإسرائيلي. هل كان نتنياهو، هنا، هو الذي دفع المستوى العسكري إلى الفشل، علماً بأنه صاحب مصلحة رئيسيّة، بمعنى المصلحة الشخصية، في الوصول إلى قادة المقاومة واغتيالهم.
من الاتهامات المساقة ضدّ نتنياهو، أيضاً، أن سياسته هي التي أدت إلى تعاظم قدرة فصائل غزة عسكرياً، ما أدى إلى صمود القطاع، وفشل اسرائيل في استعادة ردعها. إلّا أن المتابع للشأن الإسرائيلي يدرك أن سياسات إسرائيل المُتّبعة إزاء قطاع غزة منشأها الرئيسيّ هو الجيش الإسرائيلي نفسه، ومن ثمّ تماشت مصلحة نتنياهو الشخصية مع هذا التوجّه. الجيش الإسرائيلي هو صاحب نظرية انكفائية ترى أنه يتعذّر على إسرائيل هزْم الفصائل في القطاع، وأن كلّ ما عليها فعله هو تعزيز الردع وإطالة فترة الهدوء بلا مواجهات، بنتيجته. فرَض الجيش الإسرائيلي نظريته هذه على المستوى السياسي وعلى الجمهور، وزيّنها إلى حدّ باتت معه بلا منازع، إذ إن الخيار الآخر الذي قد يؤدّي إلى اجتثاث التهديد الغزّي، هو المناورة البرّية، مع ما تعنيه من توقّع عدد كبير جدّاً من القتلى والأسرى، فما بالك باحتلال متواصل للقطاع سيؤدي بدوره إلى انكشاف الجنود الإسرائيليين أمام عمليات المقاومة وإلى مزيد من القتلى؟ هل كان نتنياهو أيضاً هو الذي ردع الجيش الإسرائيلي عن المناورة البرّية، أم أن التهديد بتلك المناورة هو السلاح الذي يستخدمه الجيش لمنع المزايدات عليه، إزاء انكفائه عن غزة؟
في الخلاصة، الفشل يتعلّق بإسرائيل نفسها، بمؤسّساتها السياسية والعسكرية والاستخبارية، وكذلك بانكفاء مسؤوليها عن المواجهة خشية تداعياتها. إخفاء الأسباب، وتصويرها نتاجاً لسياسة شخص واحد ليس هو صاحب القرار الابتدائي والنهائي وفقاً لآلية بلورة القرارات في إسرائيل، هو تجهيل مقصود، تشترك فيه جهات تُخاصم نتنياهو. واللغط هنا قد يكون محل رهان مؤسّساتي، يتيح لإسرائيل حجب حقيقة الهزيمة. والفرق بين المطلبَين كبير جدّاً.