انتفاضة فلسطين ونهوض الشرق الجديد
غالب قنديل-الديار
تجسّد التطورات الجارية على أرض فلسطين المحتلة، في مضمونها وتوقيتها، حقيقة ما تمثّله وحدة الحياة والصراع، الذي يخوضه الشرق من أجل التحرّر والتقدّم، والى أيّ حدّ يرتبط قدر «أخوة التراب» في معارك المصير والوجود، التي يخوضونها على مساحة المنطقة.
– أولا: تتوّج انتفاضة فلسطين مسارا صاعدا من ملحمة الصمود والتحرّر والمقاومة، التي تخوضها شعوب المشرق وبلدانه. ولا يمكن لمن يدرس المعطيات والعوامل الموضوعية ألا يدرك أن انتفاضة فلسطين، هي تتويج مكثّف لمسار من الصراع والكفاح التحرّري، الذي تلاقت فيه إرادات شعبية وقيادات تاريخية طليعية في سورية وإيران والعراق ولبنان، أدركت طبيعة الصراع ووحدة المصير، وسطّرت فصولا حاسمة في ملحمة مشرقية، حقّقت إنجازات كبيرة خلال السنوات الصعبة، التي انقضت، وتجلّت ثمارها اليانعة سياسيا وميدانيا بأبهى الإنجازات، بعد سنوات من الدماء والتضحيات والحصار الخانق والمعارك الصعبة، والصمود والثبات في إيران والعراق وسورية وفلسطين ولبنان واليمن.
كان من الطبيعي أن تتفتّح زهرة انتصار عظيمة في فلسطين، بعدما ازدانت قلاع الشرق برايات النصر البهية على الحروب والغزوات والحصار، وثبات إرادة التحرّر والمقاومة، والنجاحات التي حقّقها المناضلون في جميع ساحات النزال. وهذه الحقيقة التاريخية تزامنت مع صعود القوة الإيرانية وإشعاعها إقليميا ودوليا، وتعاظم قدراتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية وكسرها للحصار الاستعماري.
– ثانيا: مثّلت فلسطين منذ النكبة مرآة أمينة لكل التراكمات والتحولات على صعيد المنطقة، وهي كانت فاعلا ومتفاعلا مع كلّ حدث يرتبط بحركة التحرّر عربيا وإقليميا. ونذكر جيدا كيف شكّل انتصار الثورة الإيرانية، بقيادة الإمام الراحل آية الله الخميني، عنصر استنهاض عظيم لفتية فلسطين وكهولها، ونفخ الروح في إرادة التحرّر والمقاومة. وكذلك يمثّل صمود سورية وثبات حزب الله بشارة أمل متجدّد لأبناء الأرض المحتلة، وحافزا للثبات والمقاومة. ولأن محور المقاومة تحول خلال السنوات الأخيرة الى منظومة إقليمية عملاقة، تشكل قضيةُ تحرير فلسطين ميثاقها المشترك وراية هويتها التحرّرية والاستقلالية، فإن تماسك وتنامي قدرات هذه المنظومة الجبارة، وانضمام الرافد اليمني الأصيل، شكّلت جميعها بشارة عظيمة، وحافزا لاستنهاض همم أبناء الأرض المحتلة وفتيانها وفتياتها، فألهمت الجيل الجديد إرادة وثباتا ووعيا، ليبادر في انتفاضته العظيمة، ويكتب صفحة جديدة بالدم والتضحيات والإنجازات، التي أذهلت الكيان الصهيوني.
إن واقع التحولات في نضال الشعب العربي الفلسطيني يحمل معه نبضا وتراكما للوعي والخبرة، وتوظيفا دقيقا للقدرات والإمكانات، يتكامل فيه الفعل الشعبي المنظّم والعمل العسكري، واتقان توقيت الضربات، التي تربك الكيان الغاصب، وتحبس آلته المتغطرسة والمتوحّشة، رغم ترسانتها العملاقة، في حلقة مغلقة من الرعب والعجز أمام مقاومة شعبية وعسكرية هادرة وشاملة.
– ثالثا: في كل مرحلة سبقت من تطور الحركة الفلسطينية المناضلة ضد الاحتلال، كان التطور في المقاومة الفلسطينية عنصر فعل وتأثير، ومركز إشعاع في المشرق وفي الوطن العربي. ويمكننا التأريخ لمسار أمتنا المعاصر على إيقاع المراحل والحقبات الكبرى، التي اجتازتها قضية فلسطين. ومَن ينسى العلاقة الوثيقة بين حالة الإحباط والتردّي والركود على الصعيد القومي، وبين اتفاق أوسلو وشيوع نزعة الاستسلام والاعتراف بالكيان الغاصب وما سُمّي بكذبة التطبيع.
إن إشعاع صحوة فلسطين الجديدة، وانتفاضة أجيالها الفتية، والتزامن بين هذا التحول العظيم وبين التراكمات الجارية والأصيلة على الصعيدين الإقليمي والدولي، يقود الى الاستنتاج بأننا على أبواب تحول تاريخي كبير في هذا الشرق، بل في العالم من خلال نشوء توازنات جديدة ومعادلات، لن تلبث إلا وتنعكس في جميع الساحات والبلدان، على جري عادة التاريخ المعاصر لمنطقتنا، ولا سيما مع وجود منظومة إقليمية عملاقة مترابطة، تتشارك أسباب القوة، وتشترك في احتضان «أخوة التراب» والمصير داخل الأرض المحتلة. والمرحلة القادمة ستكون، دون شك، إطارا لمسار من التراكم، يكتب تاريخا جديدا، ويضرب موعدا مع مزيد من الانتصارات وتقهقر الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي، الذي يمكن لنا القول إن انتفاضة فلسطين تدشّن أفوله التاريخي، وانهزامه أمام إرادة التحرّر والمقاومة.