«مَركَبات النار»… الفلسطينية
الأخبار- محمد بدير
أراد أفيف كوخافي مناورة تاريخية تتيح له إقحام إرثه ــــ كرئيس أركان ــــ في سجل إنجازات الجيش الإسرائيلي، ولو على مستوى الاستعداد للحرب، إذ لم تُتح له ــــ حتى حينه ــــ “فرصة” خوضها. أعطته المقاومة الفلسطينية حدثاً بأبعاد تاريخية، لكن على شاكلة مواجهة. مناورة كوخافي (سُمِّيت «مَركَبات النار») أُعدّت لتحاكي حرباً شاملة على جبهات متعددة، في وقت متزامن، تشارك فيها كل أذرع الجيش وأسلحته، وعلى مدى شهر كامل. المواجهة القائمة، حتى الآن، ومع قدر من التسامح في التوصيف، تراوح عند حدود الحرب المصغرة، على جبهة واحدة، هي الأصغر بين جبهات إسرائيل الساخنة، وقد اختتمت للتو أسبوعها الأول. برغم ذلك، وربما بسببه، يمكن المرء أن يقف على جملة من الاستنتاجات التي تثبّت تاريخية ما يحصل؛ تاريخية سيصح معها لاحقاً ــــ على الأرجح ــــ التحقيب بمعيار ما قبل أيار 2021 وما بعده، عند التأريخ للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى أيار 2000 وتموز 2006.
خلافاً للمواجهات الثلاث السابقة (2008، 2012، 2014)، وفيها كان عنوان المواجهة، بالعموم، ذا طابع دفاعي محلي (غزاوي) أو مطلبي (فك الحصار)، تخوض المقاومة الفلسطينية مواجهتها الحالية تحت عنوان مقدس وجامع، في خطوة هجومية أولى، باهظة الكلفة، على طريق الطموح نحو بلورة قواعد اشتباك جديدة. تؤسس المقاومة الفلسطينية اليوم لعملية ربط نزاع مسلح، ستكون طويلة، مع أشد القضايا استدعاءً للرفض والتحشيد والانتفاض في الوعي الشعبي العام على مستوى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي: القدس وهويتها. الفعل إذاً يتجاوز فعل الصمود، ويتخذ طابع فعل التحرير وإن كان سلبياً (منع توسع الاحتلال).
تل أبيب أدركت تماماً هذا المعنى، وتمضي في انفلات عقال عدوانيتها انطلاقاً من هذا الفهم (قد يكون الاسم الذي أطلقته على عدوانها، «حارس الأسوار»، يعكس هذا الأمر، انطلاقاً من دلالة كلمة “الأسوار” على أسوار القدس في الثقافة العبرية). لكنها تفعل ذلك على طريقة المزيد من الشيء نفسه. هي تدمر العمران في غزة، تقتل أبرياءها من المدنيين، تلحق خسائر في صفوف المقاومة وعتادها، وتراهن على إنجاز تراكمي يدفع المقاومة الفلسطينية إلى الندم على ما أقدمت عليه. تمارس إذاً أداءً “تقليدياً” يفضح ــــ من حيث لا تريد ــــ عجزها عن تحقيق ما هو أكثر: حسم الحرب والانتصار فيها. في خضمّ هذه “المراوحة»، تستنجد إسرائيل بين الفينة والأخرى بارتكابات صادمة (مجزرة مروّعة، تدمير أبراج، غارات وحشية) لا لتغطي على هذا العجز فحسب، وإنما ــــ وربما في الأساس ــــ لتوازن بذلك فشلها البيّن في منع المقاومة من تحقيق الإنجازات الميدانية والارتقاء بها.في التأريخ للصراع مع إسرائيل سيصح التحقيب بمعيار ما قبل أيار 2012 وما بعده
وللارتقاء في هذه المواجهة معناه التاريخي أيضاً. هي المرة الأولى التي تتمكن فيها المقاومة من إزاحة ساحة حربها الأساسية لتصبح في “غوش دان” (اقرأ: قلب “إسرائيل”)، فيما تتحول مستوطنات غلاف غزة إلى ما يشبه الساحة الفرعية الرديفة. نتحدث هنا عن مفاجآت ــــ باعتراف إسرائيل ــــ انطوى فيها مزيج فتاك من بُعد المدى ودقة التوجيه وحجم الرؤوس الانفجارية، والأهم، كثافة الرمايات الصاروخية التي انهمرت ــــ متجاوزة “القبب الحديدية” ــــ في غضون أيام قليلة على تل أبيب ومحيطها (معدل يومي قوامه أكثر من 40 صاروخاً). بدا لوهلة أن المقاومة الفلسطينية أعدت نسختها الخاصة من “مركبات النار” على حين غفلة من كوخافي وجيشه.
ستعمد إسرائيل، وقد شرعت في ذلك، إلى الاستدلال على إنجازاتها بإحصاءات تعرضها عن الخسائر التي أوقعتها في الجانب الفلسطيني، متجاهلة أن نتائج الحروب تكمن في حصادها لا في إحصاءاتها. سيُسجل في هذا الحصاد حتماً، أن المقاومة الفلسطينية أظهرت طفرة جديدة ــــ رابعة عددياً ــــ على صعيد اقتدارها العسكري، في مقابل حلقة التكرارية المفرَغة التي تدور فيها إسرائيل منذ 2008، تاريخ أولى حروبها الأربع مع مقاومة غزة.
وفي هذا الحصاد أيضاً، سيُسجل أن خسائر إسرائيل (وحلفائها) تتعدى بأشواط بعيدة تلك المتصلة بالحسابات المادية لقدرات المقاومة العسكرية، على أهميتها الأكيدة. “حراسة الأسوار” الإسرائيلية، ومجموع الأحداث التي سبقتها ورافقتها، أفضت واقعاً إلى تخليع الأسس التي اشتُغل على إرسائها لمشروع “العدو البديل” طوال السنوات الماضية. أريد لإيران (الصفوية، الفارسية، المجوسية، إلخ) أن تحل مكان إسرائيل عدواً لمصالح الأمة وشعوب المنطقة، كما أريد لحلفائها من المقاومين، أنظمةً وحركاتٍ، أن يَسقطوا أو يُستنزفوا في حروب دائمة وقودها الفتنة السنية الشيعية بوصفها القضية البديلة من القضية الفلسطينية. سيُسجل أن الملحمة الفلسطينية في القدس وغزة والضفة الغربية وأراضي 48 دقت المسمار الأخير في نعش هذا المشروع، وأعادت تصويب بوصلة الوعي السياسي والأخلاقي والحضاري لدى شعوب المنطقة نحو فلسطين. تصويب بدا معه أن عقداً من الجهود التآمرية العملاقة، سياسياً وإعلامياً وثقافياً ومالياً، لحرف الاتجاه قد تبدّد كالسراب، برغم الأثمان الباهظة التي دفعها محور المقاومة في الطريق. في جدولة الأبعاد والنتائج الاستراتيجية لما يحصل اليوم، ليس من المبالغة إدراج هذا الأمر على رأس القائمة.
تمارس إسرائيل أداءً “تقليدياً” يفضح ــــ من حيث لا تريد ــــ عجزها عن الانتصار في الحرب في السياق، وعلى سبيل المفارقة، يمكن القول إن المقاومة ومحورها يقطفان اليوم ثمار التطبيع الذي أريد له أن يتوّج مشروع “العدو البديل” خلال العامين الماضيين. حَرَم التطبيعُ أصحابه من ورقة التوت التي كانت تغطي خياناتهم الدائمة. سلبهم فرصة النفاق المعهود في إظهار التضامن مع فلسطين وأهلها. في المقابل، تقدم محور المقاومة بوصفه الحليف الأصيل، الوفي، المؤثر والصادق لفلسطين وشعبها وقضيتها. لا تلبيس بعد اليوم، وقد امتاز الخبيث من الطيب، ليس فقط في الموقف السياسي لحركات المقاومة، بل، والأهم ربما، في وعي الشعوب وضمائرها.
ومن أهم ما سيُسجل في حصاد هذه الحرب أن إسرائيل ستضطر بعدها إلى إعادة النظر في أمور كثيرة، من جملتها مفهومها للجبهة الداخلية. هي دأبت على إعداد هذه الجبهة بعد حرب 2006 لتواجه نوعاً محددا من التهديدات العسكرية: النيران الصاروخية. أجرت مناورات سنوية ــــ سمّتها “نقاط تحول” – لتبني جهوزية تخفف أو تحتوي الخسائر البشرية والمادية المتأتية عن التهديد المذكور. لكنّ عقلاً أمنياً أو عسكرياً أو سياسياً إسرائيلياً لم يتخيّل أن تكون «نقطة التحول» الحقيقية في الجبهة الداخلية في الحرب هي صيرورتها ساحة مواجهة من النوع الذي شهدته مدن اللد والرملة وحيفا وعكا ورهط ويافا وغيرها. «عنف قومي»، يحلو للسردية الإعلامية والسياسية العبرية أن تسميه، وتتجاهل أنه فعل مقاومة من نوع آخر، ستضطر القيادة الإسرائيلية حكماً إلى ملاءمة استعداداتها للجبهة الداخلية مستقبلاً بحيث يكون التهديد الخطير الكامن فيه على رأس الاعتبارات.
«العين على حزب الله» ــــ ظِلُّ هذا الهاجس كان ثالث كل مسؤولَيْن إسرائيليَّين اجتمعا في الأيام الأخيرة. أجزى أفيغدور ليبرمان في وصف المعضلة بصراحته المعهودة. لاقاه آخرون من المحللين والخبراء الأمنيين، والنتيجة: حربنا مع غزة ستكون “حضانة” مقارنة بحربنا مع حزب الله. لنتخيّل ماذا عسى أن يعني ذلك: خزان وقود عسقلان المشتعل! عينة ميكروية عما يمكن أن يحصل في منشآت حيفا وعسقلان وإيلات النفطية والبتروكيمائية. إطلاق 2600 صاروخ في ستة أيام من المواجهة (بحسب إحصائية السبت)! قد تكون ست ساعات أطول (بكثير) من الوقت المخصص لإطلاق عددٍ نظيرٍ من لبنان. أبراج سكنية “تتهاوى” في غزة (التعبير لوزير حرب العدو، بيني غانتس)! ماذا عن أبراج مماثلة ستتهاوى في تل أبيب ونتانيا وهرتسليا. توقف الحركة الملاحية في مطار بن غوريون! حدِّث عن فرض حصار جوي وبحري على إسرائيل، وعلى ذلك قِس.
أعادت الحرب تصويب بوصلة الوعي السياسي والأخلاقي والحضاري لدى شعوب المنطقة نحو فلسطين ما يعنينا هنا هو الاستنتاج أن حرب غزة 2021 قد أسست نحو انتقال معاكس لـ«العبء الوجودي» في الحروب (كما شرحه الزميل عامر محسن في «الحرب الدائمة والحرب المؤجلة») من أعداء إسرائيل إليها. ليس الحديث عن احتمالات الحرب وشروط اندلاعها بينها وبين حزب الله، وإنما عن نتائجها المتوقعة إن وقعت، عندما تقع. يسرائيل طال، جنرال وأحد أبرز المنظّرين العسكريين الإسرائيليين، قال ذات مرة إن الوضعية الاستراتيجية لإسرائيل ليس فقط لا تتحمل الهزيمة في حروبها، وإنما لا تتحمل أقل من انتصارات حاسمة فيها. مع اندثار زمن هكذا انتصارات إلى غير رجعة (وهذا له بحثه)، وفي ضوء الوقائع المتشكلة لحرب غزة الأخيرة، يمكن القول إن المسافة الإدراكية والعسكرية نحو إلحاق الهزيمة بإسرائيل صارت أقصر من أي وقت مضى. هكذا هزيمة يكفي فيها تحقيق كسرٍ مذلٍ للجيش الإسرائيلي في طوره الهجومي، وتظهير فضائحي لعجزه عن حماية الجبهة الداخلية في الطور الدفاعي. قيادة المقاومة في لبنان قدمت لنا وعداً قاطعاً بتحقيق ذلك، ووعودها ــــ بشهادة التاريخ ــــ ناجزة. آنذاك، سيصبح بحكم البديهي الحتمي أن تطفو في وجدان كل مستوطن إسرائيلي الأسئلة الوجودية حول جدوى وضمانات بقائه في فلسطين، وسيُتاح أن تُكحَّل أعين كثيرة برؤية مشهد خروج اليهود من مدينة اللد، قبل أيام، يتكرر بأبعاد ماكروية، على مستوى كل فلسطين.