سوريا.. دولة منسية أم محكومة بالإختفاء؟
سميح صعب
لا يشي ظاهر الحراك الديبلوماسي التصالحي في الإقليم، بأن سوريا على جدول أعماله، ولا يدل أفق التوافق الأميركي-الروسي، إن حصل، على أن الأزمة السورية سيكون لها نصيب من النقاش بين واشنطن وموسكو، فهل تتحوّل سوريا صراعاً منسياً كما تحوّلت فلسطين من قبلها؟ التحركات الديبلوماسية التركية نحو القاهرة والرياض، لا يرشح عنها أن الملف السوري يحظى بأولوية. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يهمه من التقارب مع أنقرة، تهدئة جبهة “الإخوان المسلمين”، الذين اتخذوا من تركيا وقطر منصة للهجمات عليه وتسليط الضوء على مكامن الخلل في حكمه، الذي أطاح حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي عام 2013. أما رجب طيب أردوغان فما يهمه من مصر، أن يفتح نافذة لإقتصاده المأزوم وأن يجد تسوية مع القاهرة تحفظ النفوذ التركي في ليبيا وتتيح لأنقرة سبر أغوار الثروات الغازية في شرق المتوسط. كما أن الإنفتاح على مصر، يقلّل من أعداء أردوغان في المنطقة، بينما الإنفتاح على السعودية، ضرورة تركية لفتح الأسواق الخليجية أمام البضائع التركية، التي فقدت مجالاً حيوياً بعد الأزمة الخليجية في 2017. وبين مصر والسعودية، يمكن أردوغان أن يتنفس اقتصادياً على حساب الطموحات “الإمبراطورية” التي راودته، مع إنطلاق موجة “الربيع العربي” عام 2011، وتنصيب نفسه راعياً للإسلام السياسي الذي سارع إلى مصادرة حراك بدأ إجتماعياً واستغله “الإخوان” للوصول إلى السلطة، في فرصة إنتظروها عقوداً. وعلى المقلب الخليجي، العنوان الأبرز للحوار السعودي-الإيراني، الذي بدأ في مطلع نيسان/ أبريل الماضي، وخرج إلى العلن قبل أسابيع قليلة، عنوان واحد: كيف نُوقف حرب اليمن؟ الخوف كل الخوف أن تدفع سوريا ثمن التوافقات الإقليمية، كما دفعت ثمن النزاعات الإقليمية التي بدأت حتى قبل 2011، أي منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003 وما جرّ من تداعيات على المنطقة كلها هذا الحوار “الجيد”، على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، يلبي الحاجة المعلنة للرئيس الاميركي الجديد جو بايدن، إلى وقف حرب اليمن بأي ثمن. وإحدى دوافع بايدن الرئيسية للعودة إلى الإتفاق النووي لعام 2015، كانت إغراء طهران بالتدخل لدى الحوثيين للقبول بتسوية سياسية للنزاع. ليس معروفاً عن أميركا تقديم تنازلات بالمجان، ولا سيما لدولة مثل إيران تصنفها في خانة الأعداء. هذا ما يتيح لنا القول إن المنطقة دخلت الآن، في مرحلة تطبيع تركي-عربي وعربي-إيراني. لكن أين سوريا من كل ما يجري حولها؟ الخوف كل الخوف أن تدفع سوريا ثمن التوافقات الإقليمية، كما دفعت ثمن النزاعات الإقليمية التي بدأت حتى قبل 2011، أي منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003 وما جرّ من تداعيات على المنطقة كلها. وإذا ما حُيّدت سوريا عن ملفات المصالحات الجارية، فذلك يعني دخولها ببساطة في زمن النسيان الذي ينجم عنه تأبيد الوضع القائم. صحيح أن روسيا وإيران ساندتا دمشق في إستعادة معظم الأراضي السورية، لكن “منصة أستانا” خلقت أمراً واقعاً، أبقى على الإحتلال التركي لمناطق شاسعة في شمال سوريا وشرقها، وأبقى النفط في أيدي الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة، والمرسوم من حولهم خط أحمر أميركي، وأبقى “إمارة جبهة تحرير الشام” المتحدرة من تنظيم “القاعدة” في إدلب، بينما تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) لا يزال يحتفظ بوجوده في عمق البادية، في المنطقة الفاصلة بين النفوذين الأميركي والروسي ويشن حرب إستنزاف ضد الجيش السوري، وإسرائيل متاح لها روسياً وأميركياً شن غارات ساعة تشاء على “التمدد الإيراني”. وفوق كل ذلك، هناك “قانون قيصر” الأميركي معطوفاً على العقوبات الأوروبية، الأمر الذي يدفع بالغالبية العظمى من السوريين إلى الجوع. إنه إنسداد يرشّح سوريا أن تتحول دولة منسية مجزأة النفوذ بين حلفاء وأعداء. إنه تطبيع مع الأمر الواقع الذي يزيده الزمن إستفحالاً وإستعصاءً على الحلول وعملية جنيف للحوار بين دمشق وأطراف المعارضة المرعية خليجياً وتركياً في حاجة إلى من ينعيها، ولم يعد لها من وظيفة. “منصة أستانا” و”منصة الدوحة” التي أنشاتها موسكو بالتنسيق مع قطر وتركيا، باتتا أقل بكثير مما يتطلبه الوضع السوري من تدارك، في ظل التدهور غير المسبوق في الوضع الإقتصادي والمعيشي للسوريين، والذي يفاقمه وباء كورونا. وعودة سوريا إلى الجامعة العربية معلقة على قرار أميركي، وليس على رغبة روسية وتمنٍ مصري أو عُماني بعيد كل البعد عن الترجمة. وهذا أيضاً من العوامل التي تبقي سوريا بعيدة عن خريطة الحراك الديبلوماسي الإقليمي. والأنظار معلقة أيضاً على من سيختار بايدن مبعوثاً جديداً يتولى الملف السوري. ولا يبدو أنه في عجلة من أمره، فالأولوية لليمن والإتفاق النووي وليست لسوريا. إنه إنسداد يرشّح سوريا أن تتحول دولة منسية مجزأة النفوذ بين حلفاء وأعداء. إنه تطبيع مع الأمر الواقع الذي يزيده الزمن إستفحالاً وإستعصاءً على الحلول. فهل مصادفة أن تكون سوريا خارج خريطة التطبيع الإقليمي الجارية، أم أن ذلك يحصل بمحض إرداة دولية حكمت على سوريا بالإختفاء؟ لا يبدو الجواب يسيراً.