ولاية عهد محمّد بن سلمان
خالد الدخيّل* – أساس ميديا
بعد يومين من وفاة الملك عبدالله وتولّي سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم، كتبت في صحيفة “الحياة” (الأحد 25 كانون الثاني، 2015م) مقالة عن العهد الجديد ختمته بالتالي: “يأتي (سلمان) إلى الحكم بعد أكثر من نصف قرن في دهاليز.. صناعة القرار. عاصر ملوك الدولة كلّهم، وأحداث المنطقة وتحوّلاتها. هل يفاجئ الملك سلمان الجميع؟”.
كان الانطباع السائد عن أمير الرياض حينها أنّه من صقور المحافظين في السعودية. لكنّه عندما تولّى الحكم فاجأ الجميع بأمرين لا سابقة لهما: الأول إعطاء صلاحيات واسعة لوليّ العهد لم تعرفها الدولة من قبل. والثاني تبنّيه لمشروع إصلاحي كبير للدولة يتجاوز كثيراً من الخطوط الحمر الاجتماعية للتيار المحافظ. وهو المشروع الذي أطلقه محمد بن سلمان بعد تعيينه وليّاً للعهد في 2017. يستند هذا المشروع إلى رؤية قد تضع السعودية على طريق مغادرة الدولة الثالثة إلى الرابعة.
وإذا ما تحقّق انتقال الدولة لمرحلتها الرابعة فسيكون الانتقال هذه المرّة، وعلى عكس ما كان يحصل من قبل، داخل السياق التاريخي للدولة القائمة. في الماضي كان من أبرز معايير تحقيب الدولة السعودية، إلى جانب تغيّر الزمن والجيل والقيادة، سقوط الدولة ثم إعادة تأسيسها. وبهذا المعيار ربّما تكون الدولة السعودية الوحيدة التي استعصت على الاندثار. سقطت مرّتين، ولسببين مختلفين، وأعيد تأسيسها للمرّة الثالثة. وعلى هذا الأساس تمّ تحقيب مراحل الدولة السعودية، واكتسبت المملكة صفة الدولة الثالثة (1902 ــ …)، لأنّها كانت التأسيس الثالث بعد سقوط الدولة الثانية (1824ــ1891). والأخيرة كانت إعادة التأسيس الثاني بعد الأولى (1745 ــ 1818). الآن لن يتجاوز معيار التحقيب تغيّر الزمن والأجيال، ثم الانتقال لمرحلة جديدة من دون انقطاع، بل داخل سياق الدولة ذاتها.
وأكثر ما يلفت النظر من هذه الزاوية هو ما تغيّر سياسياً. المتغيّر الأول يبدو أنّه عودة إلى آليّة الانتقال العمودي للحكم في اختيار وليّ العهد (من الأب لابنه)، التي كان معمولاً بها في الدولة السعودية الأولى، بدلاً من آلية الانتقال الأفقي (من الأخ لأخيه) المعتمدة منذ بداية الدولة الثالثة (الحالية)، وطوال فترة حكم الجيل الثاني (أبناء المؤسس الملك عبدالعزيز). وقد تمّ ذلك لتدشين تسلّم الجيل الثالث (أحفاد المؤسس) للحكم، ابتداءً من محمد بن سلمان. في الدولة الثانية كانت الطريقة الأفقية هي المعتمدة، واستمرّ الأمر كذلك في الدولة الثالثة حتّى عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، كما يبدو.
ولأنّ ولاية عهد الأمير محمد بن سلمان جاءت معها بثلاث سوابق في التاريخ السعودي، من الواضح أنّها تحمل معالم مرحلة مختلفة. فهو أول وليّ عهد في تاريخ الدولة السعودية منذ القرن الثامن عشر يمنحه الملك سلطات واسعة تسمح له بإدارة شؤون الدولة، وسياساتها الداخلية والخارجية، وإن كان كل ذلك يتمّ بأوامر ومراسيم ملكية، وتحت نظر وإشراف الملك. ويتّفق هذا التفويض مع نص الفقرة (د) من المادة الخامسة للنظام الأساسي للحكم. ثانياً استخدم وليّ العهد هذه الصلاحيات لإطلاق أضخم مشروع إصلاحي تعرفه المملكة منذ تأسيسها، تحت عنوان “رؤية 2030”. والعمود الفقري لهذه الرؤية هو تهيئة المملكة اقتصادياً لمرحلة ما بعد النفط. لكن ذلك يتطلّب إصلاحات اجتماعية وقانونية وسياسية. ومع أنّه كانت لبعضها حساسيات يفرض تجنّبها حتى الماضي القريب، إلا أن هذه المتطلّبات أخذت تتحقّق بالتتالي حسب الحاجة. وأشهر القضايا التي ظلّت تراوح بسبب حساسيتها كانت مسألة قيادة المرأة لسيارتها. ولأنّه لم يكن هناك مبرّر شرعي لمنع المرأة من ذلك، كان يقال بأنّ هذا الموضوع يعود للمجتمع، بما يشبه الهروب إلى الأمام، كما يقال. لكن تنبغي الإشارة هنا إلى أن الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز اتّخذ خطوتين جريئتين في اتجاه حقوق المرأة، وهما دمج تعليم الإناث والذكور في مؤسسة تعليمية واحدة، وفتح باب عضوية مجلس الشورى أمام المرأة. وعلى الرغم من ذلك ظلّت مسألة قيادة المرأة تراوح في مكانها، حتى تمّ حسمها بسهولة لافتة ضمن حزمة الإصلاحات الجديدة التي طالت ما هو أبعد من ذلك، سواء ما يتعلق بالمرأة ودورها ومساواتها بالرجل، أو السياحة ومتطلباتها والترفيه، أو فتح أبواب الاستثمار الأجنبي على نطاق واسع، إلى غير ذلك. الأمر الثالث أنّه بسبب تبنّي حزمة الإصلاحات هذه، وتنفيذها بالتتالي بسرعة لافتة حسب ترتيبها والحاجة إليها، ترك وليّ العهد الجديد بَصْمتَه باكراً على تاريخ الدولة، مرة أخرى في سابقة سياسية غير معهودة. وعدا عن أنّ هذا يعكس حجم الحاجة إلى هذه الإصلاحات وأنّها تأخّرت كثيراً، إلا أنه يعكس أيضاً مدى الانسجام بين الملك ووليّ عهده حول ضرورة الانتقال بالدولة إلى مرحلة مختلفة.
إنّ تغيُّر دور ولي العهد، على هذا النحو وبهذا الحجم، ينطوي على تغيّر سياسي. وهذا أمر واضح. وهو تغيّر استثنائي جاء في لحظة استثنائية وملحّة بالنسبة إلى السعودية والمنطقة ككلّ. في السياق ذاته، جاء هذا التغير استجابة لشخص محمد بن سلمان وقناعاته حول طبيعة الدولة السعودية، ولطموحاته فيما ينبغي أن يكون عليه دورها في الداخل والخارج. وعندما تمعن النظر في برنامج محمد بن سلمان الإصلاحي والتغيّرات التي أحدثها، وتلك التي يطمح إلى إحداثها، تجد أنه يستهدف في نهاية المطاف تغيير دور الدولة في الداخل، ودورها في الخارج، خصوصاً في الإقليم الذي تنتمي إليه.
في الداخل تتركّز عملية التغيير على إصلاح اقتصادي وصناعي لتهيئة الدولة والمجتمع لِما بعد عصر النفط، وفتح الباب أمام الترفيه والسياحة كرافدين، مع تغيير وضع المرأة لتمكينها وتوسيع مجال مشاركتها ومساواتها مع الرجل. وقد ردّد الأمير محمد، في حديثه الأخير للتلفزيون السعودي، قوله إنّ “الدولة السعودية كانت قائمة قبل النفط”. وهذا صحيح. فلو جمعنا عمر الدولتين الأولى والثانية، والنصف الأول من عمر الدولة الحالية لتبيّن أنّ هذه الدولة كانت موجودة قبل النفط لِما لا يقلّ عن مائة وثمانين سنة. ودلالة ذلك واضحة، وهي أنّ الدولة يجب أن تعتمد على ذاتها أولاً، وأن لا تركن إلى النفط فقط. ومن متطلبات ذلك الانتباهُ إلى ضرورة تفادي نتائج العلاقة العكسية بين تراجع النفط وتصاعد النمو السكاني، نتيجة للتنمية التي أطلقها النفط. وهي عملية طبيعية تفرض ردّ فعل طبيعي لتفادي الاعتماد على اقتصاد أحادي، ولا سيّما أنّ هناك، كما قال وليّ العهد، “مجالات للاستثمار كبيرة في السعودية لا تبرّر الاعتماد على النفط”.
الاعتماد على النفط شكّل غطاء للنهج المحافظ اجتماعياً ودينياً وسياسياً، وبالتالي فرض تفادي الصدام مع الحساسيات الاجتماعية والدينية والسياسية. والبحث عن مجالات استثمار داخل المجتمع تفرض التغيير الاجتماعي والديني والثقافي، وبالتالي مواجهة تلك الحساسيات.
يفرض مسار التغيير في المجتمع مساراً آخر على مستوى الدولة يتمثل في إعادة مركزية السلطة السياسية، ومركزية القرار السياسي إلى مكانهما الطبيعي، بحيث يكون كل ذلك محصوراً في الملك ووليّ العهد. وهذا بدوره يتطلّب تحقيق مركزية القرار الإداري في مؤسسات الدولة بمرجعيّته التي تعود إلى مركز القرار السياسي. وهو ما حصل بسرعة لافتة مند بداية العهد الجديد. وفي الأغلب يعود ذلك للملك سلمان الذي راكم خبرة طويلة مع الدولة ومؤسساتها وتقاليدها المكتوبة وغير المكتوبة لأكثر من نصف قرن. المهمّ كان الهدف من هذه الإصلاحات الإدارية والقانونية تسهيل انسيابية العمل وسرعة اتخاذ القرار، مع تشديد الرقابة لرفع حجم الإنجاز، والحدّ من الفساد الذي كان مستشرياً. لكن هذه الإصلاحات تتعلق من ناحية بالدولة ودورها، ومن ناحية أخرى تشمل هذه الإصلاحات أموراً (المرأة والترفيه مثلاً) تقع بحكم الموروث والتقليد، وليس القانون، تحت نظر المؤسسة الدينية. في هذه الحالة تطلّب الأمر استفراد الدولة بالقرار. وهو ما حصل. وبحكم أن المؤسسة الدينية سلفية المنشأ والمعتقد، فإنّها دائماً ما تتفادى الاصطدام مع منطق الدولة، وتلتزم بحقّ وليّ الأمر في تحديد كيف تلتقي المصلحة العامة مع مصلحة الدولة. وهنا التقت براغماتية الدولة مع براغماتية المؤسسة الدينية للصالح العام، وتفادياً لمفسدة ستترتّب على عدم تنفيذ تلك الإصلاحات.
على المستوى الخارجي يهدف العهد الجديد، في سياق مشروعه الإصلاحي، إلى تغيير ليس فقط صورة الدور السياسي للدولة، والصورة المعهودة لسلوكها في ممارسة هذا الدور، وإنما تغيير طبيعة هذا الدور أيضاً. وقد اتضح ذلك في الأشهر الأولى لتولّي الملك سلمان مقاليد الحكم بإطلاق عاصفة الحزم ضد انقلاب ميليشيا الحوثي في اليمن الذي تمّ بدعم من إيران. كان ذلك في 15 آذار 2015. واتّضح هذا التغيّر السياسي في إعلان أول موقف عربي مناهض لتدخّل إيران في بعض الدول العربية على أساس من مشروع مذهبي يستهدف المنطقة. واتّضح أيضاً في التوافق مع إدارة ترامب الأميركية بموقفها الحازم تجاه إيران، وإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015. كلّ ذلك يوحي بأنّ النهج السياسي السعودي يبتعد، وإن بدون اندفاع، عن سلوكه المحافظ الذي اتّسم بالميل نحو التهدئة وتفادي الصدام ما أمكن. لكن يبدو أنّه يبتعد أيضاً عن استراتيجية البقاء خارج منظومة توازن القوى الإقليمي، خصوصاً في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي. حيث إنّ اختلال هذا التوازن لزمن طويل هو السبب الرئيس وراء أنّ هذه المنطقة عرفت عدم استقرار وعدّة حروب منذ 1980، وتنمّراً يهدّد بالحرب أولاً من قبل نظام صدام حسين، والآن من قبل نظام ولاية الفقيه الإيراني. ويبدو أن القيادة السعودية الحالية تتجه نحو تغيير موقعها ودورها في توازن القوة الإقليمي هذا.
أيضاً من بين العوامل التي تقف وراء هذا التوجّه الانكفاء الأميركي والأوروبي عن المنطقة، وانشغال الولايات المتحدة بصعود الصين. وقبل ذلك وبعده انهيار العراق وسوريا واليمن، وتراجع دور مصر وما تسبّب به من تصدّع في النظام الإقليمي العربي، وتغيير البيئة السياسية للمنطقة. وهو تطوّر أدركته دول الجوار العربي (إيران وتركيا وإسرائيل وأثيوبيا)، وبدأت تتكالب لأول مرّة مجتمعة على الدول العربية. أمام هذه التغيّرات التاريخية، كان على السعوديين إعادة النظر في دور الدولة السعودية وموقعها ضمن هذه الخريطة المتحرّكة التي لم تستقرّ على حال.
*كاتب سعوديّ