الفرزلي ينقلب… ومعه 120 ألف مسيحي
جوزفين ديب
إذا كان من عنوان محدّد يُمكن إطلاقه عن تطوّرات الأسابيع الماضية في لبنان، فسيكون “حقبة إيلي الفرزلي” التي وجدت لها مساحة وازنة في الساحة السياسية اللبنانية بمتغيّرات على مرّ السنوات.
لم يأتِ الرجل من عدمٍ سياسيّ، بل صاغ انقلاباً سياسيّاً، تحوّل عبره من مفتاح حلول لـ”حماية نظام الطائف” إلى مفتاح أزمات لـ”حماية نظام الطائف” أيضاً. في الحالتين يحافظ على ولائه لصيغة 1989، لكنّه في المقابل يفتح أبواب حرب غير محسومة نتائجها مع العهد، منتفضاً على ميشال عون، الذي ساهم الفرزلي في التسويق له ضمن “خليّة السبت”. وهي خليّة ضمّت شخصيات سياسية مسيحية متنوّعة مذهبياً عايشت تاريخ لبنان الحديث، كلٌّ منها من موقعه السياسي.
كلّ يوم سبت كان الفرزلي يجتمع مع عون، يوم كان لا يزال في الرابية، إلى جانب كريم بقرادوني، جان عزيز، سليم جريصاتي، عبد الله بو حبيب وحبيب افرام. تنوّع مسيحي كان يرافق عون في مشواره نحو رئاسة الجمهورية.
يصنع الفرزلي نظريات سياسية في عزّ الأزمات الكبيرة. فنراه وقد بدأ خلال الأسابيع القليلة الماضية في طرح خروج أهل السلطة، كلّهم، من السلطة، ليعودوا جميعهم “إلى منازلهم”. وطبعاً، رئيس الجمهورية ليس الاستثناء، بل هو القاعدة في نظرية الفرزلي
كانت “خليّة السبت” أقوى من نظّر لرئاسة عون وأكثر المنابر تأثيراً. وكان فيها الفرزلي دينامو المحاججة السياسية في وجه الخصوم. فهو الذي نظّر لـ”القانون الأرثوذكسي” في ذروة المطالبة بحقوق المسيحيّين في تمثيل نيابي أكثر عدالةً، وحقّهم بقانون انتخابيّ ينصفهم بدلاً من قانون الستّين.
اليوم تغيّر الوضع، فلم يعد الفرزلي في خليّة السبت. وانفضّ أعضاؤها الآخرون عن عون. فخسر تنوّعها، ولم يبقَ له إلا الكاثوليكي سليم جريصاتي، إلى جانبه في بعبدا.
الفرزلي ينظّر لانتقال السلطة
كعادته، يصنع الفرزلي نظريات سياسية في عزّ الأزمات الكبيرة. فنراه وقد بدأ خلال الأسابيع القليلة الماضية في طرح خروج أهل السلطة، كلّهم، من السلطة، ليعودوا جميعهم “إلى منازلهم”. وطبعاً، رئيس الجمهورية ليس الاستثناء، بل هو القاعدة في نظرية الفرزلي. وانقسم تحرّكه إلى ثلاث خطوات تدرّج فيها، دفاعاً منطقياً، وتسويقاً إعلامياً، ثم هجوماً سياسياً:
أوّلا: طرح خروج رئيس الجمهورية ميشال عون من بعبدا، لتتولّى حكومة انتقالية متابعة إجراء انتخابات نيابية توفّر انتقال السلطة.
ثانياً: اقترح أن تكون الحكومة الانتقالية عسكرية، يرأسها قائد الجيش جوزيف عون. ونجح في إحداث خضّة سياسية، وراح يتنقّل بين الشاشات والمواقع والصحف… رغم أنّ هذه الفكرة سرعان ما اصطدمت بعدم إمكانية تطبيقها، في الوقت الراهن على الأقلّ، بسبب أكثر من معطى.
ثالثاً: اجترح حلّ لتسمية الوزيرين المسيحيَّيْن المختلف عليهما بين الرئيسين عون وسعد الحريري في الحكومة العتيدة. وذلك من خارج حصّة الأحزاب المسيحية.
وقد انطلق من ثوابت محدّدة في طروحاته: المؤسّسات. الجيش. الطائف. تمثيل النوّاب المسيحيّين المستقلّين عن الأحزاب المسيحية في الحكومة. تأييد سعد الحريري لرئاسة الحكومة… وغيرها.
قدّم الفرزلي طرحه إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. فهو الذي يجتمع مع البطريرك في جبهة واحدة دفاعاً عن الدستور والميثاق الوطني، وفي مواجهة محاولات إسقاط كلّ شيء
كلّها ثوابت صداميّة مع العهد. خصوصاً بوجه رئيس تكتّل لبنان القوي جبران باسيل. وهنا لا بدّ من التوقّف قليلاً. فقد يكون أكثر ما يعزّ على الفرزلي أنّه كان من نظّر لوصول باسيل إلى رئاسة التيار الوطني الحرّ، فيما الأخير كان أوّل من عارض ترشيحه على لوائح التكتّل في البقاع الغربي.
في الأيام القليلة الماضية، سُرِّب خبر مفاده أنّ الفرزلي فُصِل من تكتّل لبنان القوي بسبب مواقفه المناقضة والمهاجمة. وقد علّق الفرزلي على هذا الأمر قائلاً إنّه آثر التزام الصمت والردّ بلياقة على كلّ من سأله منذ عام ونصف العام، أي منذ أن قرّر عدم حضور اجتماعات التكتّل، عن سبب غيابه. فكان يجيب دائماً أنّ هناك بعض التمايز، محافظاً على شعرة معاوية التي تقتضيها أيّام الخبز والملح. أمّا نشر خبر فصله عن التكتّل على شكل تسريب صحافي لا يستند إلى بيان رسمي، “ففيه هروب من إثم الخبر”، يقول الفرزلي في جوابه على السؤال.
لم يحصل الفرزلي على أجوبة سياسية عن طروحاته، بل هاله حجم الشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي. يقول إنّه “حتى في طرح قانون اللقاء الأورثوذكسي، الذي يسحب بساط النيابة من عدد كبير من النوّاب السنّة، لم أتعرّض لهذا الكمّ من الشتائم”.
فمن مبدأ تمثيل الجميع، ومبدأ عدم إقصاء أحد عن التمثيل، وهو المبدأ الذي نظّر له طويلاً باسيل، طرح الفرزلي نتائج الانتخابات النيابية الماضية معياراً للتمثيل، للمطالبة بتمثيل وزاري في أيّ حكومة مقبلة.
“الأرقام واضحة”، يقول الفرزلي لـ”أساس”. فبحسب انتخابات عام 2018، حصل 22 نائباً مسيحيّاً غير منتمين إلى الحزبين المسيحيّين الكبيرين، التيار والقوات اللبنانية، على أكثر من 120 ألف صوت تفضيليّ، بينهم من احتلّ المرتبة الأولى في منطقته.
يعود بنا هذا المنطق إلى كلام الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي قال بعد الانتخابات النيابية عام 2009، مبرّراً خسارة محوره تلك الانتخابات، إنّ فريقه السياسي لم يحصل على الأكثرية النيابية، صحيح، لكنّه “حصل على الأكثرية الشعبية”. وراح نصر الله يحتسب الأصوات التي حصل عليها تحالفه، مقابل الأصوات التي حصل عليها تحالف 14 آذار، ليخلص إلى فارق لمصلحة منطقه.
وعلى هذا الأساس خاض فريق 8 آذار معركة رئاسة الجمهورية وعطّل الانتخابات الرئاسية لعامين ونصف العام. واليوم، كيف لمن نظّر لـ”الأكثرية الشعبية”، ومن خاض معارك ضدّ “إقصاء المسيحيّين”، أن يرفض تمثيل نواب في الحكومة المقبلة حصلوا على 120 ألف صوت مسيحي؟
قدّم الفرزلي طرحه إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. فهو الذي يجتمع مع البطريرك في جبهة واحدة دفاعاً عن الدستور والميثاق الوطني، وفي مواجهة محاولات إسقاط كلّ شيء.
وانطلاقاً من معادلة سعد – جبران، أو لا جبران – لا سعد، أي انطلاقاً من التسوية التي حكمت المشهد السياسي عشيّة انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، يقول الفرزلي إنّ العمل يجري على تدمير المؤسسات القضائية والمالية، وهي بعمقها مؤسسات مسيحيّة، تدميراً ممنهجاً في مشهد يشبه مشهد عام 1989. يومئذٍ أُسقطت الجمهورية الأولى، وهي كانت جمهورية الدور المسيحي في الدولة اللبنانية.
وبحسب الفرزلي، نشهد اليوم خطة تدمير ما تبقّى من تلك الجمهورية، بما فيها من وزنٍ مسيحي في المؤسسات العامة والخاصة، ليس آخرها المصارف، وما يعانيه لبنان من حصار مالي واقتصادي أسبابه سياسية.