الطائفة الشيعية لا تعيش في كوكب آخر!!
طارق عبود
قبل أيام كتب الصحافي الأستاذ غسان سعود مقالة بعنوان “واشنطن في خدمة إقتصاد حزب الله” حاول فيها توصيف الوضع القائم اليوم في لبنان، عبر شرح مسهب لانعكاسات العقوبات الأميركية عليه، وأوحى بأن هذه العقوبات أتت بنتائج عكسية،فطالت مجموعة من اللبنانيين،واستفاد منها الجزء المستهدف، اي الحزب وبيئته.
طبعا لا أريد هنا الدخول في نيات الأستاذ سعود من خلال هذا التحليل ،لكنني على قناعة بأن هذا الكلام غير صحيح،أو بالحد الأدنى يفتقد إلى الدقة.فما قاله الأستاذ سعود يحتاج إلى نقاش كبير ، وليس علينا التسليم به كما هو، ولو أنه دغدغ مشاعر كثيرين في البيئة المستهدفة بالكلام، واستفز البيئات الأخرى ورفع عندها منسوب الكراهية للشركاء في الوطن، وتم توزيعه على مجموعات الواتس أب والفايسبوك عندنا كإنجاز عظيم للطائفة و”المجتمع الآخر”.
في هذه العجالة سأحاول الاختصار قدر ما أمكن، لأنّ النقاط التي تناولها غسان تحتاج إلى شرح طويل ومفصّل.
أولًا :عن القطاع المصرفي وانهياره.
بداية قد تكون العقوبات الأميركية على لبنان قد أسهمت في تسريع انهيار القطاع المصرفي،لكن المشكلة كانت في المصارف نفسها، وفي سياسة مصرف لبنان،وفي الفوائد المرتفعة التي كانت تحصل عليها المصارف،وفي السرقة والهدر والفساد في الدولة اللبنانية وفي المؤسسات،وكل ذلك حاصل بغض النظر عن العقوبات الأميركية،وواشنطن تعتبر أن المصارف هي أحد أذرع الدولة العميقة المتينة،وهي من أكثر حلفائها وفاءً وتنفيذًا لرغباتها،ما يعني أن معول هدم المصارف كان داخليا في جزء كبير منه،وهذا ما كان سيحصل عاجلًا أم آجلًا، بغض النظر عن العقوبات الأميركية،مع العلم أنّ أكبر مصرفين يمتلكهما “شيعة” قد تم إعدامهما أمام الملأ،من دون أن يحرك أحدٌ ساكنًا، وأن معظم الأموال المنهوبة من المصارف كانت في جزء كبير منها للمودعين “الشيعة” ،وهي تقارب أل 55 مليار دولار مع العلم أن( باقي الطوائف) اذا أردنا أن نتحدث بهذه اللغة، ولعلاقة تربطهم مع المصارف قد حصل جزء كبير من المودعين على أموالهم وأخرجوها من المصارف، ومن البلد قبل الانهيار. ولكن هل ذلك يجعلنا نصدّق أنّ المصارف خسرت أموالها اليوم؟.. هذا يحتاج إلى نقاش مستقل.
ثانيًا:أما بالنسبة إلى موضوع انهيار قطاع الإستيراد والتصدير الشرعيين ،كما يقول الأستاذ غسان،والصعود الاستثنائي لقطاع الإستيراد والتصدير غير الشرعي، والذي أصبح شيعيًا بامتياز اليوم. فهذا تسويق لسردية أن البيئة الشيعية هي خارجة عن القانون والدولة،وأنها تستفيد من الإنهيار الحاصل في لبنان، وأنّ الانهيار هو جائزة يقدمها الأميركيون إلى الطائفة الشيعية.
طيب، هناك نقطة مهمة للتذكير ،يستطيع من يريد أن يراجعها،وقالها عدد كبير من الخبراء،وهي أن إيرادات المرفأ من خلال المستوردين والمصدرين(الشرعيين) كما يقول، تفقد خزينة الدولة منها أكثر من مليارين ونصف المليار دولار سنويًا،وهذا لا علاقة له بالتصدير والإستيراد غير الشرعيين اللذين أشار إليهما الزميل غسان .
ثالثًا :كيف يجزم الأستاذ غسان بنقل مقاليد التجارة من مكان إلى آخر؟أين هي الشواهد؟!وأين هي هذه التجارة؟وكيف يعتبر ذلك خدمة من واشنطن إلى بيئة الحزب!! وهل البواخر الإيرانية تصطف طوابير على مرفأ صور ولا نراها ؟ وهل أنّ بيئة الحزب أصبحت تستورد المنتجات الغربية، وتصدر النحاس والألمنيوم والفوسفات، والآخرون لا يستوردون ولا يصدّرون،؟ وهل انتقلت مصانع BMW إلى بئر العبد؟ وهل تخلى التجار والمحتكرون عن الوكالات الحصرية وأصبحت في بيئة الحزب؟
رابعًا:أما بالنسبة إلى تجارة السيارات الجديدة والمستعملة،والصيانة وما شاكل،فإشارة الأستاذ غسان إلى أن (المجتمعات الأخرى)باتت ترغب في إصلاح سياراتها بدلًا من تبديل القطع ،فهذا سببه الأزمة الإقتصادية،وإرتفاع سعر صرف الدولار،وهذه مشكلة الجميع،وليست مشكلة مجتمع فحسب ، وبالنسبة إلى تجارة السيارات المستعملة فكانت(المجتمعات الأخرى)كما يحب توصيفها هي الأكثر حضورًا،والشاهد يبدأ من طريق صيدا القديمة،وطريق المطار،وصولا إلى صور،حيث عشرات المعارض للسيارات المستعملة والفخمة أيضا،وهي متوقفة اليوم تمامًا.
خامسًا:أما عن إنهيار القطاع الخاص والذي يتكلم عليه الأستاذ غسان،ويخص المؤسسات السياحية في المجتمع المسيحي،وهو يقول إنّ هذا القطاع سينهار،وكأن القطاع الخاص ليس موجودًا إلا عند “البيئة الأخرى” التي سماها البيئة المسيحية والسنيّة. ولا يُختصر القطاع الخاص ببعض المطاعم والمراقص والعلب الليلية.
سادسًا:بالنسبة إلى “شحّ الدولار لدى جميع المكونات اللبنانية،باستثناء ذلك البلوك الكبير جدًا المكون من المتفرغين في الحزب” فهذا كلام فيه تعميم وافتراء ،والجميع يعرف أنّ ما يتحدث عنه الأستاذ غسان سعود هم مجموعات،وليست كل البيئة الشيعية،ومن يقرأ هذا الكلام،وهو لا يعرف الواقع اللبناني،سيعتقد بأن كل الشباب في الجنوب وفي البقاع والضاحية يقبضون بالدولار الأميركي،وهذا شيء مؤسف ويجافي الحقيقة والواقع،وإذا كان الكثير من العوائل لا يزال صامدا أمام الجائحة الاقتصادية،فذلك بسبب وجود أحد أبنائها في بلاد الاغتراب، وهو من يرسل مئة دولار أو مئتين في الشهر لستر أهله من العوز، وليست بسبب ال “فرش دولار” الذي يتكلم عنه الأستاذ غسان وغيره،فلا إيران ترسل الدولارات للناس ولا غيرها،وما يحصل عليه الناس هو من تعبهم وشقائهم من غربتهم.
فماذا عن مئات الاف الموظفين الشيعة في القطاع العام وفي المدارس الرسمية والخاصة،والجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة، هل يقبضون بالدولار لمجرد أنهم شيعة، ولم يتأثروا بسعر صرف الدولار؟ وهل أنّ المعلمين في مدارس المهدي والمصطفى والكثير غيرها يقبضون بالدولار،أم أنّ في كثير منها قد حسمت الادارات نصف معاشاتهم ،وأصبحوا على حافة الفقر؟
أما عن قطاع البنزين والإنترنت فهو يقول إن السفارة الأميركية لن تستطيع أن تنير لمبة في مكاتبها،بعد فترة، وهم يبنون سفارة تكلف أكثر من مليار دولار في عوكر، وكل نفط العالم تحت أحذيتهم، وأنّ كل الناس سيتأثرون إلا الحزب،وهذه مبالغات كبيرة ومغالطات فادحة، وهو يتحدث عن مخزون نفطي مخبأ في الأراضي السورية، ويستمر لخمس سنوات،فهذا الكلام يحتاج إلى تدقيق وليس كلامًا مقنعًا،ويحتاج أيضا إلى دليل.فإذا كان هذا الكلام صحيحًا، فلماذا تتهم بيئة الحزب في البقاع بتهريب البنزين والمازوت إلى سوريا ما دامت المخازن ممتلئة؟
في المرحلة السابقة عندما طرأت أزمة البنزين والمازوت تأثّر فيها أهل الحنوب والضاحية والبقاع بشكل فظيع، فيما كانت المناطق الأخرى تعيش بشكل شبه طبيعي.
أما عن موضوع الإنترنت الرسمي،يقول سعود،بأن محطات الإرسال جاهزة أيضًا لتزويد الجنوبيين والبيئة الشيعية فيها،وهذا كلام أقل ما يقال فيه،أنه يسوّق بأن الحزب بنى دولة داخل الدولة فعلًا،وبدأ ببناء أبراج الاتصالات وهو على وشك التعاقد مع الصين للاستفادة من خبرات ال5G. وأنّ شركة “هواوي” نقلت مصانعها إلى حارة حريك. وهو لا يعلم أنّ من يفقد شاشة هاتفه اليوم من “البيئة” لا يستطيع تبديلها لأنه لا يمتلك ثمنها.
وأما عن مخازن النور،فمن يقرأ كلام الأستاذ غسان يعتقد بأن كل الجنوبيين وأهل البقاع والضاحية اليوم يقفون طوابير على أبواب هذه المخازن ويستفيدون منها،وبأنهم يعيشون في رخاء،وأن غلاء الأسعار لا يطال هذه الفئة من اللبنانيين،وهم يعيشون في بحبوحة،وثلاجاتهم تفيض بالكافيار والسمك والقريدس . وأن التعاونيات الخاصة أقفلت أبوابها. وهذا كلام ليس دقيقًا، وفيه كثير من الإرتجال، لأنه غير حقيقي أبدًا،ومن يستفيد من هذه التعاونيات هي فئة قليلة جدًا، والبضائع الموجودة محدودة أيضًا.
أما النزوح نحو “قارووط مول”والضاحية الجنوبية فأعتقد أن الأمر لا يستحق الشرح الكثير.
أخيرًا يقول بأن بيئة الحزب التي يفترض أن الخناق الإقتصادي سيدفعها إلى الثورة،إنما هي تشعر اليوم بالأوضاع الصعبة،ولكنها تعلم بأنها أفضل من المكونات الأخرى.كيف يكون ذلك؟هل أتى إلى بيوت الجنوبيين أو إلى أهالي بعلبك والضاحية وسألهم واطّلع على أحوالهم، أم هو قام بإحصاء ما لعدد العائلات،وهي بالمئات، التي لا تستطيع إرسال الأموال لأبنائها الذين يدرسون في الخارج،لأنهم خسروا قيمة معاشاتهم،وأنا أحدهم؟
وهنا يحضر سؤال عن عدد غير المتضررين – وليس المستفيدين- من هذه الأوضاع الاستثنائية إذا أردنا أن نسير بسردية غسان وغيره؟ مع أنّ ما يحصل هو ليس جديدًا، وموضوع شباب الحزب ومعاشاتهم يعود إلى ثلاثة عقود مضت، وكم هو عددهم بالنسبة إلى أكثر من مليون ونصف المليون شيعي؟فالإشارة إلى أنّ هذه البيئة مستفيدة ومنتشية ومرتاحة ولا ضير عليها مما يحصل؛ فيه الكثير من الارتجال والتسرّع والتحريض على الآخر، حتى لو كان القصد بريئًا،وهو القول إنّ العقوبات الأميركية لا تجدي نفعًا.
أما عن صندوق التعاضد فهو قديم وليس جديدًا. وهو يغطي فرق الوزارة للناس المسحوقة التي لا تستطيع دفع مئة ألف ليرة للاستشفاء.
واعتقد أن الأستاذ غسان نسي أيضًا مؤسسة جهاد البناء وخزانات المياه في الضاحية، ونسي أنّ الضاحية كانت في العتمة وما زالت، وأن بيروت وجبل لبنان تتغذى من الكهرباء ٢٢ ساعة في اليوم.
في الخاتمة،
جميع اللبنانيين مضغوطون وأحوالهم المعيشية كارثية، والانهيار الاقتصادي لا يميّز بين طائفة وأخرى. والطائفة الشيعية من أكثر المتضررين من الانهيار والأزمة الاقتصادية، ومن يريد القول غير ذلك فهو مخطئ. فهذه اللغة وهذا المنطق لا يعبّر عن حقيقة الواقع اللبناني أبدًا.وما يحصل ليس انتصارًا ولا تستفيد منه فئة على حساب الأخرى، بل هو كارثة جامعة أتت على كل اللبنانيين.
وللحديث تتمة..