رفعت إدارة ترامب خلال فترتها في البيت الأبيض، من مفهوم المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وكذلك وروسيا، إلى مكانة مركزية في قلب سياستها الخارجية، إذ تمثلت في عدة وثائق استراتيجية وتوجيهات على المستوى الوطني. واعتنقت إدارة بادين هذا التوجه أيضا، والذي يبدو أنها فهمت الحاجة إلى استراتيجية “طويلة المدى” ضد بكين.
من الطبيعي أن يكون لهذا الشد والجذب تداعيات هائلة على حلفاء أميركا، والذين لديهم اتصالات مع كلا البلدين. وخلال السنوات الأخيرة، حاول الكثير من البلدان إيجاد توازن بين العلاقتين، بدرجات متفاوتة من النجاح. ومع ذلك، فإن الحفاظ على صيغة من التوازن أصبحت أكثر صعوبة.
المغرب يعتبر مثالا على ذلك، فبالرغم من علاقته السياسية التاريخية مع واشنطن، فإن المملكة حاولت جاهدة تجنب التورط فيما تراه منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين. وفي بعض الأحيان، ذهب مسؤولون إلى حد السخرية من أن المغرب يجب عليه إحياء حركة عدم الانحياز التي كانت موجودة خلال حقبة الحرب الباردة، كوسيلة لتجنب الاختيار الصعب بين واشنطن وبكين. إن قلق الرباط مفهوم، خاصة في ضوء النشاط الاقتصادي الصيني المتزايد في أفريقيا بشكل عام، واستثماراتها المستمرة خلال السنوات الأخيرة في المغرب على وجه خاص.
وحتى الآن، فمن الواضح أن استراتيجية المملكة الأوسع تجذبها إلى الاتجاه المعاكس. فعلى مدار عقدين، اتبع المغرب نهجا طموحا مصمما لتحويلها إلى مركز لوجستي رئيسي لإعادة شحن البضائع التي تدخل أوروبا وتخرج منها، فضلا عن تسهيل حركة التجارة في جميع أنحاء القارة الأفريقية.
وسيكون نتيجة هذه الرؤية التي أوضحها الملك محمد السادس لأول مرة في عام 2020، هي ميناء طنجة المتوسط والمنطقة الصناعية في الشمال- التي استطعت زيارتهم في وقت سابق من هذا الشهر عندما زرت المغرب بدعوة من وزارة الخارجية.
ويقع ميناء طنجة المتوسط على بعد حوالي 30 كيلومترا شرق مدينة طنجة على طول مضيق جبل طارق، وقد تم افتتاح الميناء في عام 2007، وازدهر الميناء منذ ذلك الحين ليصبح مركزا تجاريا عالميا. واليوم، يعتبر طنجة المتوسط، الميناء الأول في كل من أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وميناء الحاويات الذي يحتل المركز الـ 24 عالميا.
وتتكون المنشأة حاليا من أربع محطات منفصلة، حيث تبلغ طاقتها الاستيعابية نحو تسعة ملايين حاوية سنويا. بالإضافة إلى ذلك، يجري الآن بناء منشأة ملحقة، صممت لتخزين مواد الهيدروكربونات لإعادة شحنها إلى وسط وشرق أوروبا، والتي تبعد على بعد حوالي 100 كيلومتر إلى الشرق.
يذكر أنه بمجرد أن يتم تشغيل هذا المجمع -المعروف رسميا باسم ميناء الناظور ويست ميد- فإنه سيكون لديه القدرة في غضون عامين تقريبا- على تحويل المغرب إلى “ترياق فعال” بالنسبة لأوروبا، التي تعتمد على روسيا بشكل عميق فيما يخص احتياجاتها من الطاقة.
إن ميناء طنجة المتوسط هو أكبر من مجرد ميناء. إنه جزء من “قاعدة صناعية” تمتد لنحو 16 مليون ميل مربع، ومصممة للاشتراك مع مواقع تصنيع الشركات العالمية الرئيسية المجاورة في طرق التصدير. وقد حصلت المبادرة على المركز الثاني من قبل صحيفة “فينانشيال تايمز” وتشمل ستة مناطق نشاط مميزة، بما في ذلك منطقة تجارة حرة، و”مدينة سيارات” (مخصصة لصناعة أجزاء السيارات)، وأكبر مصنع للسيارات في أفريقيا، وتمتلكه شركة رينو الفرنسية.
ويطمح هذا المشروع الاقتصادي الكاسح، لجلب كميات هائلة من الأعمال والاستثمارات الجديدة إلى المغرب خلال السنوات القادمة. ويتوقع مسؤولو الموانئ في حقيقة الأمر، أن تزداد النشاطات الجديدة مع انحسار وباء كورونا وانتعاش التجارة العالمية.
لكن رغم ذلك، يمكن لهذه الديناميكية أن تصبح سيفا ذو حدين بالنسبة للرباط. ففي الولايات المتحدة، لدى الحكومة الفيدرالية، والكونغرس، والرأي العام، اهتمام متزايد بشأن المنافسة الاستراتيجية التي تمثلها الصين. لقد تم تضخيم هذا التركيز في المقابل، بسبب جائحة كورونا، والتي كشفت عن اعتماد أميركا العميق (وغير الصحي) على الصين فيما يتعلق بالتجارة العالمية والسلع الحيوية. وبينما تبدأ الولايات المتحدة في التفكير بجدية من أجل فصل سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها بعيدا عن الصين، فإن الانجذاب نحو المنشآت المتنوعة مثل ميناء طنجة المتوسط سينمو بلا شك.
كل ذلك سيجعل من أمر الحيادية بخصوص المنافسة العالمية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، أكثر صعوبة بالنسبة للحكومة المغربية خلال السنوات المقبلة. إن المسؤولين في الرباط يحتاجون إلى فهم هذه الديناميكية الجديدة، والاستعداد لها.
المصدر: اندبندنت عربيّة