وعود المحتلّ «فاشوش»: لن تصبحوا «على صورة أميركا»
الأخبار- ملاك حمود
تبدُّل الأولويات
في غضون أسابيع من إطلاق عملية «الحرية الدائمة»، أُطيح حُكم حركة «طالبان» (1996-2001)، وبدأت أعداد القوات الأميركية تتزايد عاماً بعد عام. لكن الأنظار تحوّلت بعيداً من أفغانستان اعتباراً من عام 2003، وهو ما مكَّن «طالبان» من تجميع صفوفها في معاقلها في الجنوب والشرق، حيث يمكنها أن تنتقل بسهولة عبر الحدود مِن وإلى المناطق الباكستانية. في ضوء هذا التحوُّل، يقول جوناه بلانك، في مقالة لمجلة «أتلانتك»، إن «الخطيئة الأصلية للحرب في العراق كانت الذهاب إلى حرب العراق. والخطيئة الأصلية للحرب في أفغانستان، كانت الذهاب إلى حرب العراق». من هنا، ولِفهم قرار بايدن الذي كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في أيلول/ سبتمبر 2001، يجب ابتداءً فهم قرار الدخول، وكيف تمّ تقويض هذا الخيار بسرعة بسبب غزو بلد آخر. ففي ذلك العام، وحتّى أكثر صقور الحرب حماسةً، لم يرغبوا في غزو أفغانستان بل أرادوا غزو العراق. أمّا بايدن فرفض «الطموحات غير الواقعية للمحافظين الجُدد، والواقعية غير الطموحة للمحافظين للأصليين»، كما يقول الكاتب. ولكن قراره دعم غزو أفغانستان وتطوّر تفكيره مع استمرار الحرب – وصولاً إلى قرار الانسحاب -، يقدِّمان تلميحات مهمَّة حول كيفية تعامله مع مسائل القوّة العسكرية مستقبلاً. وفي تبريره دعمَ الغزو، ألقى بايدن خطاباً في الـ22 من تشرين الأول من ذلك العام، أصرّ فيه على أن أهداف الولايات المتحدة – اجتثاث «القاعدة» والمساعدة في تشكيل «حكومة صديقة» – ستتطلّب قوات برّية أميركية تتجاوز العدد الصغير للقوات الخاصة الموجودة، لكنه لم يقتنع، على أيّ حال، بفكرة بناء الدولة «على صورة أميركا»: «نحن لا نتحدّث عن تحويل قندهار إلى باريس»!
وعود الديموقراطية
دخلت القوات الأميركية أفغانستان كجزء من حرب بوش العالمية على الإرهاب. أبلغ القادة الغربيون، وخصوصاً الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الأفغان مراراً بأن «طالبان» صارت من الماضي، وبأن المجتمع الدولي لن يترك أفغانستان وحيدةً أبداً، بل سيساعد شعبها في تشكيل حكومة مركزية قوية ومؤسّسات لـ«إرساء السلام والازدهار والاستقرار والديموقراطية»، على أن تكون الحكومة الجديدة التي سيشرف الغرب عليها «قويّة بما يكفي لتحرير الأفغان من قوى الشرّ، والإرهاب، والإجرام، وإساءة استخدام السلطة، وضعف الدولة، والتسامح مع الفساد، وإنتاج الأفيون وإدمانه، والتدخّلات الإقليمية، واضطهاد المرأة، والفقر والبطالة»… وغيرها الكثير. وعلى رغم حساسيّة الأفغان تجاه القوى الغازية، إلّا أن طيفاً واسعاً منهم لم ينقلب على الوجود الأميركي على أراضيه في السنوات الأولى للغزو، بل إن بعضهم احتضن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب. وبعد مضيّ 16 عاماً، وتحديداً في أيار/ مايو 2018، أصبحت أفغانستان في وضع أسوأ من ذاك الذي كانت عليه يوم دخلتها أميركا. لم يقتصر الأمر على استعادة حركة «طالبان» المبادرة وسيطرتها لاحقاً على أكثر من نصف المقاطعات (وعددها 398)، وعودة نشاط شبكة «حقّاني» وتنظيم «القاعدة»، بل إن تنظيم «داعش» اكتسب موطئ قدم له في البلاد. ومن إنجازات الاحتلال ما يسمّيه شريف الله دوراني في كتابه «أميركا في أفغانستان: السياسة الخارجية وصناعة القرار من بوش إلى أوباما إلى ترامب»، «النقابة القوية ـــ المكوّنة من أمراء الحرب، والرجال الأقوياء، وأباطرة المخدرات، ومغتصبي الأراضي، والمهرّبين، والمجرمين، واللصوص، وبعض الأثرياء – التي انتشرت جذورها في جميع فروع الحكومة الثلاثة، وأصبحت تقريباً دولة داخل دولة. يقِّدر أشرف غني (وريث الاحتلال بدوره) صافي قيمتها بحوالى 20 مليار دولار، وهو ما مكّنها من امتلاك الديموقراطية في يدها وتحريكها بالطريقة التي تناسب مصالحها. فارتفع إنتاج الأفيون من 185 طناً في عام 2001 إلى 8200 طن في عام 2007. وأظهر محصول الأفيون زيادة بنسبة 43% في عام 2016 مقارنة بعام 2015». يُضاف إلى ما سبق، أنه اعتباراً من منتصف عام 2018، أصبح 54% من الأفغان يعيشون تحت خطّ الفقر، وأكثر من 40% منهم – حتى إن البعض يقدِّر الرقم الفعلي بحوالى 70%، أي تسعة ملايين من أصل 14 مليون قوّة عاملة – عاطلون من العمل، فيما ارتفع إدمان المخدرات ثلاثة أضعاف ونصف الضعف منذ عام 2009، من مليون مدمن إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف مليون.
البداية والنهاية
في السابع من تشرين الأول 2001، خاطب بوش الشعب الأميركي من غرفة المعاهدات في الطابق الثاني في البيت الأبيض، معلناً بدء الحرب على أفغانستان. ومن القاعة نفسها، منتصف نيسان/ أبريل 2021، أعلن بايدن التزامه قرارَ الانسحاب بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول، على رغم أن «العوامل» التي تدّعي أميركا أنها أبقتها في أفغانستان على مدى عقدين من الزمن – بما في ذلك خطر انهيار الدولة (وهو ما حذّر منه قَبل يومين رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، مارك ميلي) والخوف من حصول الجماعات الإرهابية على موطئ قدم – لا تزال قائمة. لذلك، تشهد العاصمة الأميركية سجالاً قوياً حول قرار الانسحاب، بين طائفةٍ قوامها المؤسسة العسكرية ومؤسسات صنع السياسة الخارجية (أبرزها الـ«سي آي إيه»)، متمسّكة بالبقاء إلى ما لا نهاية وإن كانت لا تعرف كيف تكسب الحرب، وبين أخرى تُقرُّ سرّاً أنه لا يوجد سبيل للانتصار ولو أمضت الولايات المتحدة عشرين سنة أخرى في أفغانستان التي اشتهرت بكونها مقبرة الإمبراطوريات. أدرك صانعو السياسة والمسؤولون العسكريون الأميركيون لاجدوى جهودهم في هذا البلد، حيث صنعت «المساعدات الأميركية» اقتصادات مبنيّة بأكملها على الفساد الحكومي، لكن الحاجة إلى تبرير الوجود الأميركي في هذا البلد والتأكيد أيضاً أن الولايات المتحدة كانت تكسب أو يمكنها في النهاية أن تفوز، دفعت المسؤولين إلى «تضليل الجمهور»، كما يقول الكاتب إيشان ثارور في مقالة لصحيفة «واشنطن بوست». وينسب الكاتب إلى ستيفن بيدل، أحد كبار الباحثين في «مجلس العلاقات الخارجية»، القول إن الحلّ السياسي مع «طالبان» كان يجب أن يتمّ قبل ذلك بكثير: «تفاوضوا باكراً وتفاوضوا كثيراً. فالحرب لا تُكسب بتدمير جيش معارض واحتلال عاصمته. أنت تربح من خلال إتاحة تسوية لم تكن ممكنة قبل بدء النزاع».