تحقيقات - ملفات

عبد الحميد العلوجي الباحث الموسوعي لا يراجع مسوداته ويقرأ أكثر مما يكتب


شكيب كاظم

كانت بداية تعرفي إليه، يوم قرأت كتابه (الشيخ ضاري قاتل الكولونيل لجمن في خان النقطة) الصادر بداية سنة 1968، شاركه في كتابته الضابط في الجيش العراقي، والباحث المعروف في التراث الشعبي، الأستاذ عزيز جاسم الحجية، ويكفي الحجية فخراً سلسلة كتبه (بغداديات).

ولقد كان هذا الإصدار هو الأول والأخير لما عرف بـ(مكتب العلوجي والحجية للنشر)! إذ ألفا الكتاب وكانا يظنان أن سيجد قبولاً من الرئيس المهذب الفريق عبد الرحمن عارف (ت.2007)، كونه يمت بالخؤولة إلى قبيلة زوبع العربية العريقة، وشيخها الشجاع ضاري المحمود(ت.1928)، لكن الكتاب لم يصادف هوى في نفس الرئيس، بل عاتب الأستاذ عزيز، عندما بعث من يبلغهما برغبته في لقاء أحدهما، عاتبه على عدم التزامهما بالأمانة العلمية في تأليف الكتاب- كما قرأت ذلك في حديث صحفي للعلوجي في سنوات تلت- كما أعاد سرد الحادثة ذاتها في المقابلة التي أجراها معه الكاتب الراحل الأستاذ حميد المطبعي (ت.2018) وهي الحلقة الثانية المؤرخة في 24 من حزيران1985 ، من حلقات ست تحت عنوان محدد هو (الجذور في تراث العراق الحديث) قبل أن يبوبها المطبعي في كتب بعينها، قدم من خلالها خدمات جلى لثقافة العراق، إذ ارخ لذلك الرعيل المؤسس من رجالاته، على مختلف الصعد.

تقدرون وتضحك الأقدار!

أقول: فتبخرت أحلام العلوجي وزميله الحجية، فعمدا لإغلاق المكتب وإلغاء مشروع النشر ذاك، وهربنا- كما يقول العلوجي- لا نلوي على شيىء تجنباً لعتاب الدائنين، وكانا يمنيان نفسيهما من مقابلة الرئيس، أن الدنيا ستمطر عليهما دنانير لا جرادا، وتفاءلا بسداد الديون!

لقد عرف الأستاذ عبد الحميد (بن عبد الكريم بن حلبوص بن حسين المطيري) العلوجي (1924-1995) بالكتابة الموسوعية، وقد كتب في مناح شتى، فكتب في الطب العراقي، كما فهرس للنتاج النسوي العراقي، واستقصى مؤلفات ابن الجوزي، فضلاً عن (جمهرة المراجع البغدادية) وهو فهرست شامل عن بغداد منذ تأسيسها حتى الآن، ويقصد سنة 1962، طبع بمطبعة الرابطة سنة 1962، شاركه فيه المفهرس الثبت، الراحل كوركيس عواد، مدير مكتبة المتحف العراقي أوانذاك، ولعله كلف بتأليفه لمناسبة الاحتفال بيوم بغداد وفيلسوفها الكندي، الذي عقد في 3 من كانون الأول 1962، تزامنا مع أو تيمنا بالذكرى الثالثة لشفاء رئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم ومغادرته مستشفى دار السلام بالعلوية، إثر محاولة الاغتيال الفاشلة مساء الأربعاء 9 من تشرين الأول 1959، كما كتب العلوجي في الدراسات القرآنية، والاستشراق والمستشرقين، تردف هذا الفيض من المؤلفات قراءات مضنية ومتواصلة في شتى المجالات، مؤكداً للمطبعي إنني أقرأ أكثر مما أكتب، ولا انقطع عن القراءة إلا أثناء الكتابة، الأمر الذي يدفع المطبعي لمعابثته ومشاكسته قائلا له:

-وأنت أيها العلوجي أخشى أن يتهمك بعض النقاد بأنك مغرم بتعداد أسماء المؤلفين العالميين لتدفع الشر عن تقليديتك؟.

فيجيبه العلوجي:

– أنا لست حماراً احمل أسفاراً، أو معجماً يشير إلى أعلام، فأنا لا اذكر أحدا من المؤلفين عراقياً أو عربياً أو أجنبياً إلا بعد أن كانت لي معه أكثر من سهرة تحت قمر أو مصباح، وإلا بعد أن يحتل كتابه مكانه اللائق في رفوف مكتبتي الخاصة، وقد اعتدت الا أطلق طيراً في ضباب، وباستطاعتي أن أتحدى من يقوى على تكذيبي بتأليف كتاب عن حياة صاحب الاسم الذي يقال إني أدفع الشر بذكره! “تراجع الحلقة الثالثة من عدد جريدة ( الثورة) الصادر يوم الإثنين 1 من تموز 1985.

العلوجي الكرخي البغدادي هذا، كان له فضل تأسيس مجلة تعنى بالتراث الشعبي، قبل أن تؤول إلى الدولة وتتولى الإشراف عليها وإصدارها، محاولة منها في السيطرة على وسائل النشر وجعلها تحت خيمتها، فضلا عن ترؤسه تحرير مجلة (المورد) التراثية الرصينة والرائدة في بابها، هذه المجلة الفصلية التي كان كل عدد منها يزدان بمقالة افتتاحية ذات لغة عالية المستوى، تدبجها يراعة الأستاذ عبد الحميد العلوجي، الأمر الذي أثار عليه حفيظة الذين لا يعملون، ويكرهون العاملين، حتى أنه يبوح بشكاته للأديب اللوذعي الأستاذ مهدي شاكر العبيدي، من نفر ينفسون عليه موقعه في إصدار مطبوع راق، ويعبر أولاء عما يكمن في نفوسهم من حرد ويستعر من الغيظ على ما اتسمت به افتتاحيات (المورد) من تنميق واستخدام لما غدا دارساً ومهجوراً ومصدوفاً عنه من الألفاظ والتراكيب. تنظر مقالة (عبد الحميد العلوجي الكاتب الموسوعي المجبول على البساطة والتواضع) المنشورة في موقع (الناقد العراقي) بتأريخ 27 من أيلول 2011 فضلاً عن ملحق (عراقيون) الخاص بالأستاذ العلوجي. جريدة (المدى) الخميس 22 من أيلول 2016.

وبما أن المعاصرة حجاب، توجب الغبط والتحاسد والتنافس والتكاره، فإن مخطوطا تناول فيه العلوجي، المستشرقين والدراسات القرآنية، وفيه توصلات أبهرت أعضاء اللجنة العلمية التي ألفها المجمع العلمي العراقي لمدارسة هذا المخطوط المهم، يجابهه المؤرخ المعروف الأستاذ عباس العزاوي بالكنود والجحود وتطفيف الكيل، مدعياً أن المخطوط من مدعيات العلوجي، وأن ليس هو صاحبه الحقيقي، أما لماذا هذا الغبن والعسف والإنكار؟ فلأن العزاوي قرأ فيه معلومات لم يطلع عليها، ولم يسمع بها وهو المؤرخ المعروف، وثانياً لأن العلوجي معلم في مدرسة ابتدائية؟! وأضيف لتساؤل الأستاذ العبيدي: من علمك في صباك يا رجل؟! لأتساءل أنا أيضا: ماهي شهادة العقاد والشيخ جلال الحنفي وعزيز السيد جاسم وحميد المطبعي وعبد الجبار عباس ورزاق إبراهيم حسن، ومارون عبود والمنفلوطي والعبيدي ذاته الذي أغدق على الثقافة العربية فرائده وفتوحاته وتجلياته؟!

كيف عامله عضو في المجمع؟

لابل أن أحد أعضاء المجمع العلمي العراقي المنتفخ بالدال والمتنفج بها، يوم قدم الباحث الكبير الأستاذ عبد الحميد العلوجي، مخطوطة كتابه (تأريخ الطب العراقي) للمجمع للنظر في نشره، سأله هذا العضو ما هي شهادتك؟ فسحب العلوجي المخطوط غضبان أسفاً، قائلا للأستاذ رباح آل جعفر: إن المجمع العلمي العراقي عامل كتابي هذا كما عومل حذاء أبي القاسم الطنبوري في ليلة من ليالي شهرزاد! ينظر مقال (أيام وليال في ضيافة العلوجي) في ملحق (المدى) المذكور آنفاً.

فأية سخرية مدافة بالأسى هذه التي يطلقها الأستاذ العلوجي، هو المعروف بسخريته اللاذعة وأسلوبه الفكه في الكتابة والمحادثة؟ رائيا إنه يستطيع أن يزرع البسمات في جميع الشفاه مصبوغة وغير مصبوغة، وأية تورية رائعة هذه التي يوردها العلوجي!.

سخرية لاذعة وأحماض

في حديثه مع المطبعي مهتديا بتحميض- والتحميض لمن لا يعرف معناه: الإفاضة في ما يؤنس من حديث، والانتقال من الجد إلى الهزل- وسخرية ابن قتيبة في (عيون الأخبار) والثعالبي في (يتيمة الدهر) والجاحظ في جميع مؤلفاته، لا بل تبلغ به السخرية الولوج إلى موطن الأسرار، فما أوقفها كما أوقفها أبو نواس قائلا: ورغم شيخوختي ما أزال قويا على شريكة حياتي، نتذاوق العسيلة بلا هوادة”. وإذ شرحت معنى التحميض، فلن أذكر معنى العسيلة، فارجعوا الى المعجم؟!

وحتى وهو يذكر صروف الدهر القاسية التي أحالته ركاماً، ما غادر السخرية المرة والفكاهة

:انهمرت مقالاتي مع سنة 1946، وفاضت في الستينات وما بعدها.. ثم نزرت في معاقد الثمانين، بعد أن وجدتني مشدوداً بأعمالي الوظيفية.. إضافة إلى إصابة عيني بالتقوس، وأذني ببواكير الصمم، ودمي بالسكر والضغط وقلبي بغياب دعد وسلمى، وأطرافي بالرعشة، وفمي بسقوط الأسنان، وغدتي الدرقية بالعطل.. كان الله في عوني، فأنا في هذا الواقع أماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج، أو سأعاني- في غد قريب- أوصاب الشاعر اللبناني بولس سلامة (١) التي صرعته في آخر دنياه”. تراجع الحلقة الثانية. جريدة (الثورة) في 24 من حزيران1985.

وإذ نشر العلوجي عديد كتبه، إلا أنه توانى عن نشر كثير من هذا المخطوط، الذي ستطويه الأيام، وإذا كان له عذر أو بعض عذر لعدم نشر مذكراته، التي يقول إنها تقع في ست مئة صفحة، وأودعها نجله الوحيد (غسانا) وأوصاه بعدم نشرها، إذن لماذا كتبها وأراق فيها حبر العين وحبر الدواة؟ ولعل الدافع وراء حجبها، صراحته وسخريته اللاذعة- كم أشرت آنفاً- وهذا ما كنت أطالعه في مقابلات صحفية، فضلاً عن لقاءات تلفازية، فليس له عذر أن لم ينشر بعض مخطوطاته، ولا سيما موسوعته القرآنية، فهذا الجهد المضني الذي اشتغل عليه وفيه- كما يقول- منذ سنة 1952 وحتى أخريات أيامه، ولما يكتمل، أو اكتمل! سيضيع ويذهب بدداً، فالأبناء ذهبوا كل مذهب، ولا يكاد يجمعهم مع توجهات أبيه‍م الثقافية جامع، ترى أما كان الأجدر أن يكبح جماح نفسه باقتناء كل هذه الألوف من الكتب، التي ما أظنه قرأها كلها، فالعمر قصير والعلم غزير وكثير، والاستعانة بهذه النقود على طبع هذه المخطوطات؟

يظل الأستاذ العلوجي، يشكو تبعات الوظيفة التي تأكل وقته، وهذا الأمر عاناه عديد الأدباء والباحثين، فلقد أتت الترجمة من الروسية إلى العربية على وقت غائب طعمة فرمان، والأمر يشمل الدكتور سهيل إدريس، فمجلة (الآداب) ودارها أخذت وقته، وها هو محمد دكروب الذي تولى إصدار مجلة (الطريق) اللبنانية عقوداً، وغيرهم كثير فأثرت سلباً على عطاءاتهم الفكرية والثقافية، ولم ينج من هذه الجائحة سوى أساتذة الجامعات، لقلة ساعات عملهم.

 يبث العلوجي شكاته للمطبعي قائلاً: لم يكن المرض وحده سبباً في هذا الانخفاض، وأنا لم أذكره إلا عاملاً مساعداً فيه، إن الذي حجبني عن الإنتاج هو مواصلة عملي رئيساً لتحرير مجلة (المورد) على امتداد أكثر من اثنتي عشرة سنة، وانغماري في العمل الإداري الروتيني، وإشرافي المستمر على طبع اللوامع من منشورات وزارة الثقافة والإعلام، وقد يتبادر إلى الذهن، أو قد يزعم زاعم بأنني كالنعامة أو (العقعق!) أحتضن بيض غيري وأنسى بيض نفسي”. تراجع الحلقة آنفة الذكر.

رأيه بالسرد العربي

كنت وأنا أقرأ رأيه السلبي بعالم السرد العربي ومنه العراقي، أظن إنه ناتج عن عدم توق لهذا الفن وقلة إطلاع عليه، لكن إذ تطالع ما يعدد لك من روائيين، ورواياتهم التي قرأها، تحترم رأيه الناتج عن تذوق ودراية وتمحيص، إذ نجده قرأ نتاجات ليو تولستوي، وتشيخوف، وليرمنتوف، وكولن ولسن، وفرانسوا مورياك، وهنري دي مونترلان، والبرتو مورافيا، وسارتر، ونابوكوف، وديفيد هربرت لورنس، وارسكين كالدويل، والقائمة تطول.

وإذ لا ينكر سهوه ونسيانه، فإني وجدته يذكر أكثر من مرة النحوي الذي قال: أموت وفي نفسي شيىء من (حتى). وهو لدى التدقيق أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء.

كما ذكر ما سماها “مناظرة الكسائي وسيبويه حول مسألة العقرب والزنبور”، وهي عند التحقيق، قضية نحوية جدلية أفاضت في ذكرها كتب النحو واللغة عرفت بـ(المسألة الزنبورية) فخُذِل سيبويه وخسر المناظرة مع الكسائي، رأس مدرسة الكوفة النحوية، فاغتم سيبويه وهاجر نحو بلده، بلاد فارس ومات على الأثر.

كما نسب العلوجي في الحلقة الثالثة من حلقات (جذور في تراث العراق الحديث) المنشورة في جريدة (الثورة) يوم الإثنين الأول من تموز 1985، نسب كتاب (الآجرومية) إلى الشيخ خالد الأزهري، ووجدتْ هذه الهفوة صداها في الحوار الذي كتبته الصحفية أسماء محمد مصطفى، ونشر في الملحق المذكور آنفاً، فضلاً عن الحوار الذي أجرته الصحفية وداد الجوراني مع العلوجي، ونشره الملحق ذاته، وصحة الأمر أن الكتاب النحوي الصغير ألفه أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الأندلسي المعروف بمحمد بن آجروم ( 672-723)، ولدي شرح للكتاب تولاه أحمد حبيب قيصر العاملي، وهو من منشورات المكتبة الأهلية في شارع المتنبي ببغداد لصاحبها السيد شمس الدين الحيدري، طبع في مطابع النعمان بالنجف الأشرف، غير مؤرخ، أما كتاب الشيخ الأزهري فهو (شرح التصريح للشيخ الإمام العلامة الهمام خالد بن عبد الله الأزهري على التوضيح لألفية ابن مالك في النحو للشيخ الإمام العلامة جمال الدين أبي محمد بن عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري تغمدهم الله برحمته ورضوانه -آمين- وبهامشه حاشية العلامة المتقن الألمعي المتفنن الشيخ يس بن زين الدين العليمي الحمصي رحمه الله  -الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية المصرية سنة 1313 هجرية، وقد آل الي هذا الكتاب فضلاً عن كتاب شرح ألفية ابن مالك، آل إلي من خزانة كتب مختار محلتنا (الشواكة) الفقير محمد علي الملقب جابر بن حاج كاظم بن سهيل غبّ وفاته شتاء سنة 1971 عن طريق حفيده محمد هادي.

   حاشية

(١) ما أشار إليه العلوجي بشأن مرض بولس سلامة فصّله الأديب المصري الكبير الصديق وديع فلسطين، في كتابه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره) إذ ذكر أن بولس سلامة أصيب في عام 1936 بناسور في العمود الفقري، مما اضطره للاذعان لمباضع الأطباء، ولكن بادرة من الإهمال سببت له شللا نصفيا (..) وفي عام 1958 جاء من يشير عليه بزيارة (عذراء لورد) في فرنسة (..) وسافر محمولاً، والفى نفسه وسط آلاف من المرضى،(..) وعاد وهو قادر على السير على قدميه، ومتكئاً على عكاز”. ص137

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى