الحدث

بريطانيا على خطى الفساد في الشرق الأوسط

هل فضيحة غرينسيل في بريطانيا وتورط رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، فيها رأس جليد فساد مستشرٍ؟ (غيتي)
باتريك كوبيرن

 

التقيتُ في السابق برجال أعمال في الشرق الأوسط كانوا يشعرون بقلق شديد على فرصهم في الفوز بعقد حكومي. ومن الطبيعي أنهم ترددوا في توضيح التفاصيل، لكنهم ألمحوا إلى أن خوفهم الرئيس كان يتعلق برغبة المسؤول الذي قدموا إليه رشوة في منحهم العقد أو قدرته على ذلك. وسلموا بأنني أعرف بأن أحداً لا يستطيع أن ينجح في القيام بأعمال مع الحكومات المعنية من دون دفع رشوة إلى مسؤول ما في الداخل.

كنت في العراق وأفغانستان عندما كان النظام الحكومي في كل من البلدين مشبعاً بالفساد. وقد لا تكون بريطانيا في الموقع نفسه بعد، لكنها قطعت على طريق الكليبتوقراطية (الطبقة الحاكمة اللصوصية) شوطاً أبعد مما يمكن لمعظم الناس تخيله. ففي ما يتعلق بالتحذيرات كلها من الفضائح الحالية، تقلل الكلمات والعبارات كلها المستخدمة لوصف هذه الفضائح (الوجوه نفسها، ونخب متحدرة من وسط واحد، والزبائنية، والمحسوبية، وتضارب المصالح، والفساد) من خطورة ما يجري وضرره.

والواقع أن الأفراد والشركات لا يوظفون الساسة والموظفين المدنيين، ويدفعون إليهم كثيراً من المال، إلا لأنهم يتوقعون أن يكسبوا لأنفسهم مبالغ أكبر بكثير. وهناك الفساد “الصلب” الذي يهدف إلى الفوز بعقد بعينه، والفساد “الناعم”، القانوني عموماً، الذي يهدف إلى الفوز بدعم المسؤولين الكبار من أجل تحقيق الغايات العامة للذين يدفعون لهم.

وتشترك آليات الفساد في كثير من الجوانب في مختلف أنحاء العالم، ولو أن تطور الوسائل المستخدمة لإخفائها أو تفسيرها يختلف إلى حد كبير. وفي هذا، كما هي الحال في عديد من الأمور الأخرى، تقل الفرادة البريطانية عما هو مفترض ومسلم به غالباً، والواقع أن قرينة النزاهة تجعل الحياة أسهل بالنسبة إلى غير النزيهين إلى حد خطير.

إن معرفتي بالفساد مستمدة في الأغلب من الشرق الأوسط، لكن قائمة ما أعتبره النقاط المرحلية الرئيسة الست على الطريق إلى الكليبتوقراطية تجد أوجهاً شبه متعاظمة في بريطانيا.

1. يصبح الفساد أقوى عندما تقتنع الشركات بأنها غير قادرة على النجاح بأعمال مع الحكومة من دون وجود جهات ميسِّرة على مستوى اتخاذ القرار داخل الحكومة. وإذا لم تعثر الشركات على مسؤولين داخليين خاصين بها، لا يمكنها أن تأمل بالمنافسة. وتكمن أسرع وسيلة لاكتساب نفوذ كهذا في دفع ثمنه. ومن المرجح أن يكون هذا عبارة عن دفعة نقدية في بغداد أو كابول. وفي بريطانيا، قد تكون المكافأة في شكل وظيفة عالية الأجر في المستقبل، أو خيارات أسهم، أو منافع كهذه.

من الأمثلة المشؤومة على التعاملات المتزايدة في بريطانيا في هذا الصدد، (على الرغم من غياب ما يشير إلى مخالفة قانونية) مثال حدده تقرير للمكتب الوطني لتدقيق الحسابات العام الماضي حول مشتريات الحكومة من معدات الحماية الشخصية. فقد كشف التقرير عن وجود مسار سريع مميز شبه سري للغاية للذين هم على اتصال بـ”مسؤولين حكوميين، ومكاتب للوزراء، ونواب في البرلمان، وأعضاء في مجلس اللوردات، وكبار موظفي هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وغيرهم من المهنيين العاملين في مجال الصحة”. وقال التقرير، إن الشركات داخل المسار المميز كانت لديها فرصة من كل 10 فرص للفوز بعقد مقارنة مع أقل من واحد في المئة للشركات خارج المسار.

والواقع أن هذا المسار السريع “الداخلي” لم يكن ذا علاقة كبيرة بالخبرة المهنية، وكان أقرب كثيراً إلى طريقة ممارسة الأعمال في الشرق الأوسط. وحللت صحيفة “نيويورك تايمز” جزءاً كبيراً من نحو ألف و200 عقد معلن أبرمتها للحكومة المركزية في المملكة المتحدة في ما يتصل بجائحة “كوفيد-19” بقيمة 22 مليار دولار (16 مليار جنيه إسترليني). وتبين لها أن نحو نصف هذه العقود، وقيمتها 11 مليار دولار، “ذهب إلى شركات يديرها أصدقاء وشركاء لساسة في حزب المحافظين، أو شركات من دون خبرة سابقة أو ذات تاريخ مثير للجدل. وفي هذه الأثناء، لم تحصل شركات أصغر حجماً تفتقر إلى النفوذ السياسي على شيء يذكر”.

2. يشكل حجم الأموال في هذه القطاعات عاملاً بالغ الأهمية في انتشار الفساد. وتفشل التحقيقات في شأن الفضيحة الحالية في بريطانيا في تسليط الضوء على هذه النقطة بالقدر الكافي. وهذا ليس بالفساد الذي قد يكون ضئيلاً مثل النفقات البرلمانية. فالناس داخل الحكومة وخارجها ربما يعملون للحصول على عشرات أو مئات الملايين من الجنيهات، وهذا من شأنه أن يجعلهم يخوضون مجازفات قد يتجنبونها بخلاف ذلك. وعندما يكون هذا القدر من الأموال “المغيرة للحياة” (تقلب الحياة رأساً على عقب) معروضة، يتسرب الفساد إلى الأعلى. أتذكر وزيراً في بغداد كان ليسعد في لندن إذا تمكن من أن يقترض 50 جنيهاً من أصدقائه، لكن بعد بضع سنوات في منصبه، أصبح يمتلك قصراً يضم ثلاثة مسابح في عمّان.

3. تفضي الأزمات إلى فرص عظيمة للفساد سواء كانت تلك الأزمات في حلة حرب أو جائحة. أما المسارات السريعة الخاصة، التي كانت لتصبح بخلاف ذلك شديدة المراوغة، فمن الممكن تبريرها باعتبارها نوعاً من الإجراءات الوطنية لمواجهة الطوارئ الوطنية. ومن الممكن أن تشكل الضوابط والضمانات الطبيعية من جانب واحد “روتيناً إدارياً بيروقراطياً” يخنق الجهود الوطنية، وعند إنفاق مبالغ هائلة من المال ولا يُنجَز أي شيء، يُفسَّر ذلك كأمر مؤسف لكنه حتمي في ظل الظروف المحيطة. لكن المؤسف أن السوابق المحددة في أوقات الأزمات تميل إلى الاستمرار وتحديد السلوكيات المستقبلية.

4. يرغب هؤلاء الذين يروجون للفساد، إذا كانوا حكماء، في توزيع المال في أوساط النخبة السياسية. وهذا يعني أن عديداً من الناس يشعرون بالضعف وعدم الحماسة إزاء التحقيقات البعيدة الأجل وذات السلطات القانونية القوية التي قد تركز عليهم. كذلك تشكل المكافآت المقدمة إلى الأحزاب السياسية وسيلة جيدة لتجنب الملاحقة وعرقلة الإصلاح.

5. تمثل الفرصة المحدودة المتاحة للوقوع في قبضة القانون ومواجهة عقوبات دافعاً آخر بالغ الأهمية للفساد. وأفضل وسيلة لتحقيق هذه الغاية هي ضمان أن ما يقوم به المرء قانوني من الناحية التقنية، وليس مراوغاً أو إجرامياً، ولو أنه قد يبدو كذلك في نظر الرأي العام. وإذا أفلت فساد كهذا من العقاب، فإن آخرين سيقولون لأنفسهم، “الجميع يفعلون ذلك، فلماذا لا أفعل ذلك؟”.

6. تؤدي العقود الممنوحة إلى شركات وأفراد لا يملكون وسيلة لتوفير البضائع والخدمات التي تدفع الحكومة ثمنها دوراً خاصاً في انحدار المعايير. فأولئك الذين ينالون هذه العقود يصبحون وسطاء ويحيلون العقود إلى غيرهم في مقابل رسم، وقد يحدث هذا عدة مرات. فالتعاقد الغامض من الباطن يشكل وسيلة خالية من المتاعب لتحويل الروابط السياسية القوية إلى أرباح غير مستحقة.

هناك عامل واحد يجعل الحياة في بريطانيا أسهل على الفاسدين مقارنة مع كابول أو بغداد. فهنا لا يزال الناس يشعرون بالصدمة حين يملأ كبار الساسة وموظفو الخدمة المدنية جيوبهم. وفي شطر كبير من الشرق الأوسط، قد يندهش المواطنون العاديون إذا لم يتصرف كبار الساسة وموظفو الخدمة المدنية على هذا المنوال.

فالثقة الساذجة في نزاهة المؤسسات البريطانية تفتح الباب أمام الفساد على نطاق واسع في شكل خاص. وفي الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، لم تكن شرطة العاصمة في لندن فاسدة فحسب، بل عملت أجزاء منها كمؤسسة إجرامية. ولفترة طويلة كان ضحاياها يواجهون عدم التصديق، وكان الجناة مُطلقي اليد وخارج المساءلة إلى أن أسقطتهم فضائح متكررة. وتحضرني هنا مقولة السير روبرت مارك، المفوض الإصلاحي لشرطة العاصمة، “إن قوة الشرطة الجيدة هي تلك التي تمسك من المحتالين أكثر من أولئك الذين توظفهم”.

ومع بعض التعديل والتكييف، يشكل هذا القول شعاراً مناسباً لكل من يسعى إلى إصلاح الأقسام العليا من الحياة العامة في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى