خطاب بوتين أمام الجمعية الفيدرالية يركز على قضايا الداخل الرئيس الروسي يصالح مواطنيه ويعد النساء والأطفال بامتيازات مادية من دون أن ينسى تهديد خصومه في الخارج
في خطاب كرّس معظمه لقضايا الداخل، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عما يمكن أن يقدمه لشعبه خلال الفترة المقبلة التي تسبق موعد الانتخابات البرلمانية المرتقبة في خريف العام الحالي. بدا واضحاً أن بوتين في سبيله إلى مصالحة مواطنيه، ربما تخفيفاً من وطأة ما يتحملونه منذ سنوات من أعباء زاد من حدتها ما نجم عن تفشي وباء كورونا من متاعب وأعباء.
وقد بدا بوتين وكأنه يقول لخصومه ومعارضيه في الخارج قبل الداخل، إنه لن يحيد عن توجهاته الاستراتيجية التي أعلنها سبيلاً إلى تنمية الداخل، مهما بلغت درجة ضغوط الخارج. وأراد من خلال التركيز على قضايا التنمية الداخلية وقضايا الداخل، أن يقول إنه وبلاده لا يتأثران بضغوط الخارج. مع ذلك، فقد بدا الخطاب في مجمله وفي شقه الداخلي وكأنه “خطة عمل” يصحح من خلالها المسيرة، ويصالح كل من نالت منه ومن مصالحه وأحلامه، ما اشتعل من أزمات اقتصادية وصحية نجمت عن وباء كورونا من جانب، وما صاحب ذلك من محاولات التدخل في كثير من جوانب الحياة الداخلية من جانب آخر.
شعبية حزب بوتين
ومن اللافت أن الرئيس الروسي كان يتوقف كثيراً ليشير إلى “حزب الوحدة الروسية” الحاكم، بوصفه صاحب المبادرة بما يقرره من “مكرمة” أو “منحة” لشعبه، سواء كان يتعلق ذلك بالمرأة المعيلة التي تحتاج إلى دعم مادي يعينها في مواجهة أعباء الحياة، أو بالمرأة التي تنتظر مولوداً وتخشى ما لا بد أن ينجم عن ذلك من أعباء مادية، أو “مطلّقة” تشكو من عدم تنفيذ طليقها حكم سداد النفقة الشرعية. أما عن السبب الذي قد لا يكون خافياً على أحد، فيكمن في أن البلاد تنتظر الانتخابات البرلمانية في سبتمبر (أيلول) المقبل. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد عرًج بوتين على الحديث عما تتحمله بعض الأقاليم والمقاطعات من أعباء الديون والقروض التي قال بضرورة أن تبدأ الحكومة بتوفير الظروف المناسبة لذلك، وحلها سواء من خلال جدولتها لآجال طويلة تبلغ 15 عاماً أو إسقاط ما يمكن منها، فضلاً عن ضرورة الانتهاء من ذلك في أقرب فترة ممكنة، بما يعنى ضمناً قبل موعد الانتخابات البرلمانية في خريف العام الجاري، في ضوء ما كشفت عنه أجهزة قياس الرأي العام، ومنها مركز “ليفادا” الذى أعلن نتائج استطلاع أجراه في شأن شعبية الحزب الحاكم، ويفيد بأنها لا تتجاوز 21 في المئة.
وفيما أسهب في تعداد ما يطرحه من مبادرات لتحسين أوضاع المواطن والأسرة الروسية، كشف الرئيس بوتين عن سلسلة من الإجراءات التي طالب الدوما والحكومة بسرعة تقنينها وتنفيذها في مختلف المجالات، وفي مقدمها التعليم والصحة والرعاية والتأمينات الاجتماعية. ولم يغفل بوتين مغازلة الداخل والخارج على حد سواء بوعوده حول فتح باب السياحة الخارجية والداخلية فور تراجع وتيرة انتشار كورونا، إلى جانب تطبيق قرار تسهيل الحصول على التأشيرة الإلكترونية الروسية للأجانب في غضون أربعة أيام مثلما فعلت روسيا خلال بطولة العالم لكرة القدم في عام 2018.
“التحرش” بروسيا
وعلى الرغم من أن بوتين اعترف في مستهل خطابه بأنه سيركز في خطابه على قضايا الداخل، وهو ما فعله، إلا أنه توقف عند عدد من قضايا الخارج، وهي التي يحتدم حولها جدل منذ أشهر. وقال إن هناك من يحاول “التحرش” بروسيا من دون سبب. ووصف ذلك بأنه أشبه بـ “رياضة” جديدة تمارسها بعض الدول. وأضاف أن “روسيا لا تريد أن تحرق ما يربطها مع هذه الدول من جسور، لكن إذا تطلب الأمر إجابة أو رداً فإن ذلك سيكون أسرع وأكثر قسوة وعلى نحو يزيد عن حد التطابق”.
التهديد واضح، يسانده ما لقيه من تصفيق حاد استمر طويلاً. ومنه استمد بوتين قدراته على توجيه رسائل إلى “كل من يحاول التطاول على روسيا من الصغار الذين يتأوهون لاستدرار عطف سيدهم”. وإن لم يشر إلى أسماء هؤلاء الصغار ولا إلى ذاك السيد الذي ينتظرون عطفه، وإن كان التلميح يكاد يغنى عن التصريح، فإن الإشارة هنا إلى أوكرانيا وجيرانها من البلدان الأوروبية. أما السيد فليس هناك سوى الولايات المتحدة التي تتصدر قائمة الخصوم منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014. ولم يكتف بوتين بذلك، فقد أعلن صراحة أن “كل من يشارك في تدبير الاستفزازات ضد مصالح روسيا وأمنها، لا بد أن يعلم أنه سيندم على ذلك كما لم يندم طيلة حياته”. ومضى ليقول إنه مضطر إلى الإعلان عن أن روسيا تلتزم بما يكفي من صبر وضبط نفس، وتتحلى بالمسؤولية المناسبة والمستوى الاحترافي والعقل الصائب اللازمين لاتخاذ ما يلزم من قرارات”. وقال إن بلاده لن تسمح لأي كائن تجاوز الخطوط الحمراء” التي تحددها روسيا.
ضبط النفس
لكن الرئيس الروسي عاد ليقول إن بلاده “تتمسك بضبط النفس وتلتزم في تصرفاتها بالتواضع، بل وكثيراً ما لا ترد على التصرفات غير الودية، بل التي تتسم بالصفاقة، نظراً لأن موسكو تريد أن تكون على علاقات طيبة مع كل أعضاء المجتمع الدولي”. وعرًج بوتين على الحديث عما كان رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو كشف عنه، وهو الانقلاب الذي استهدف اغتياله وأفراد أسرته، وجرى إحباطه واعتقال مدبريه ممن أدلوا باعترافاتهم عن أبعاده وأهدافه. وأعاد بوتين إلى الأذهان انقلاب المعارضة الأوكرانية الذي أطاح الرئيس الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) 2014. فيما أشار إلى أن هناك من استهدف تصفيته في إطار الأساليب التي تلجأ إليها القوى التي اعتادت “ممارسة العقوبات غير القانونية ذات الدوافع السياسية في الاقتصاد، وعلى المحاولات الفجة للبعض لفرض إرادتها على الآخرين بالقوة”. ومن هنا، تحول بوتين إلى الحديث عن قضايا الأمن ومنظومة التسلح وما تقرر من أمور لتحديث أسلحة القوات المسلحة، مشيراً إلى إمداد الجيش بمنظومات صواريخ “أفانجارد” و”بيريسفيت”، وما سيجرى تسلمه خلال الفترة المقبلة ومنها المنظومات الصاروخية “سارمات” و”وبوسيدون” وغيرها.
وإذ كرر الإشارة إلى دعوته إلى اجتماع لرؤساء الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، قال إن الاجتماع مدعو إلى مناقشة القضايا المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية، وبما يسهم في توفير “بيئة للتعايش الخالي من الصراع على أساس معادلة أمنية لا تشمل الأسلحة الاستراتيجية التقليدية، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والقاذفات الثقيلة والغواصات فحسب، ولكن أيضاً جميع الأنظمة الهجومية والدفاعية القادرة على حل المهمة الاستراتيجية، بغض النظر عن معداتها”.
أصدقاء
ومن اللافت أن بوتين أشار إلى أصدقاء روسيا في كثير من المنظمات الدولية ومنها “بريكس” و”مجموعة بلدان شنغهاي” ومجموعة بلدان معاهدة الأمن الجماعي”، التي كاد ينطقها “منظمة حلف وارسو” (التي جرى الإعلان عن حلها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وكانت تضم الاتحاد السوفياتي وبلدان شرق أوروبا)، قبل أن يتدارك وينطق الاسم الصحيح.
يبقي أن نشير إلى أن الرئيس بوتين ألقى خطابه السنوي أمام الجمعية البرلمانية وضيوفها من أعضاء الحكومة وممثلي الأوساط الاجتماعية والسياسية وكذلك الأطباء وأطقم التمريض، في إشارة تقدير، في ساحة “مانيجنويه” الكبيرة المجاورة للكرملين وسط ظروف شهدت كثيراً من التشدد والمراجعة والرقابة الصحية للحاضرين، ومنها إجراء المراجعة الطبية للحاضرين ثلاث مرات في 16 و19 و20 من أبريل (نيسان) الجاري، فضلاً عن إلزام الصحافيين وكثير من الحاضرين بارتداء “الأقنعة الطبية”.