حسن فحص
يمكن القول إن أسابيع قد لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة تفصلنا عن حقيقة ستفرض نفسها على المنطقة والعالم، خلاصتها اتفاق جديد بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني حول البرنامج النووي، وما في ذلك من لزومات عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015 من دون تعديل، وما يعنيه ذلك من إلغاء للعقوبات الاقتصادية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب بعد قرار انسحابه من الاتفاق في أبريل (نيسان) 2018 وسلسلة الشروط التي أرفقها بهذا القرار، والتي تتعلق بالدور الإيراني والنفوذ الإقليمي ودعمها جماعات تلعب دور الأذرع الإيرانية في عواصم عربية عدة، وفتح ملف البرنامج الصاروخي وما يشكله من تهديد لأمن، ليس فقط القوات الأميركية المنتشرة في منطقة غرب آسيا، بل أيضاً لأمن دول تعتبر حليفة للولايات المتحدة في المنطقة، لم تتردد في إعلان مخاوفها من هذا البرنامج الصاروخي.
في السياق، فإن تشكيل لجان مختصة لمتابعة تفاصيل وشروط عودة طرفي أزمة الاتفاق النووي إلى طاولة مجموعة 5+1 والجلوس وجهاً لوجه، يعني أن الأمور وضعت على سكة الحل الجدي وما فيه من نوايا الطرفين الحاسمة في إنهاء الخلاف تحت سقف يسمح لكل منهما الادعاء بأنه حقق نصراً وحصل على ما يريده في إطار الشروط التي وضعها.
إلا أن النتائج التي يمكن التوقف عندها في هذا المسار الذي انطلق في فيينا، هي أن واشنطن استطاعت فرض نوع من التنازل على إيران في ما يتعلق بشرط إلغاء كل العقوبات التي فرضت ما بعد عام 2018، من خلال تقسيمها بين عقوبات تتعلق بالبرنامج والنشاط النوويين، وبين عقوبات خارجة عن البرنامج النووي وتتعلق بمسائل مرتبطة بالحريات وحقوق الإنسان ودعم الإرهاب. أي أن المطلب الإيراني بإلغاء أكثر من 1500 عقوبة وضعها ترمب، لن يكون مطروحاً على طاولة التفاوض بشكل كامل، وإنما سيجري تفاوض على بعض هذه العقوبات وإمكانية إعادة إدراجها تحت عنوان النشاط النووي، وهو أمر يفسره القرار الأخير الذي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن وفرض فيه عقوبات على بعض الشخصيات الإيرانية المتورطة في قمع احتجاجات عام 2019 المطلبية.
ومن نتائج هذا الاتفاق أيضاً، عودة طهران إلى ممارسة دورها على الساحة الدولية كعضو فاعل من دون عراقيل أو مخاوف أو شروط، وبالتالي الانفتاح على المجتمع الدولي والعمليات الاقتصادية واستقطاب الاستثمارات الغربية والحصول على الأموال المجمدة في البنوك الدولية، والتي قد تتجاوز في مجموعها أكثر من 70 مليار دولار في أقل التقديرات، ما قد يسمح لإيران ونظامها بإعادة ترميم أوضاعه الاقتصادية الداخلية التي وصلت إلى مشارف الانهيار نتيجة ما تركته العقوبات من تأثيرات على مختلف شرائح المجتمع الإيراني، وأسهمت في القضاء على الطبقة الوسطى ووسعت الطبقة الفقيرة، وتلك التي ما دون خط الفقر، بشكل بات على النظام علاجها أو التخفيف منها، فضلاً عما يوفره ذلك من عودة إيرانية فاعلة لترميم مواقع نفوذ النظام في منطقة غرب آسيا، خصوصاً في جنوب هذه المنطقة أي الشرق الأوسط.
وحتى إذا كان النظام الإيراني قدم ضمانات سرية بإمكانية العودة إلى طاولة التفاوض للتفاهم مع المجتمع الدولي حول موضوع البرنامج الصاروخي ودور والنفوذ الإقليميين، إلا أن المرحلة الفاصلة ما بين العودة إلى تفعيل الاتفاق وإلغاء العقوبات الاقتصادية من جهة، وانطلاق مثل هذه المفاوضات المفترضة من جهة أخرى، فإن النظام الإيراني سيعمد إلى تفعيل نشاطاته على هذين المستويين كما فعل في عملية رفع مستوى تخصيب اليورانيوم واستخدامها كورقة ضغط على طاولة التفاوض لإجبار الأطراف الدولية الاستجابة إلى مطالبه، أي أنه من المتوقع أن تشهد المنطقة في المرحلة المقبلة عودة مختلفة لإيران وحلفائها من أجل فرض شروط جديدة أو على الأقل تثبيت مواقعها في الإقليم وترميم ما لحق بها من خلل في السنتين الماضيتين، خصوصاً بعد عملية اغتيال رأس مشروعها الإقليمي الجنرال قاسم سليماني في بغداد فجر الثالث من يناير (كانون ثاني) 2020.
القبول الأميركي بإسقاط مخاوف دول الجوار الإيراني، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، التي تمسكت بمطلب الدخول إلى مجموعة دول التفاوض كعضو معني مباشرة بالأزمة الإيرانية، وعدم الأخذ في الاعتبار عينه حساسياتها الكبيرة من التهديد الذي يشكله البرنامج الصاروخي الإيراني لأمنها واستقرارها، إلى جانب الآثار السلبية الناتجة عما تتحدث عنه من تدخلات إيرانية في شؤون هذه الدول الداخلية واستخدام جماعات موالية لها بهدف زعزعة أمنها واستقرارها وسيادتها. كل ذلك يعني أن المنطقة مقبلة على حالة تشبه مرحلة ما بعد اتفاق عام 2015 الذي أطلق يد إيران في المنطقة على حساب الدول الأخرى.
واذا كانت طهران وضعت عملية رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60 في المئة، في خانة الرد على ما اعتبرته اعتداء إسرائيلياً على منشأة نطنز وتدمير آلاف عدة من أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول، ” IR1″، فمن المتوقع أن تسعى إيران إلى تحويل أزمتها مع إسرائيل والمواجهة المفتوحة التي بدأت تلوح في الأفق بين الطرفين بعد تصاعد حرب الناقلات بينهما وصولاً إلى عدم تنصل تل أبيب من مسؤولية تفجير نطنز، ستسعى لتحويل هذا التوتر إلى أزمة في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال رفع مستوى التهديد بالانتقام من الأخيرة لحض واشنطن على التعامل مع المخاوف الإسرائيلية التي ازدادت مع ظهور بوادر التوصل إلى اتفاق جديد في فيينا، خصوصاً وأن طهران تعتبر تمسكها بمبدأ التفاوض وتدوير الزوايا لتسهيل عملية التوصل إلى تفاهمات جدية تشكل خسارة لإسرائيل التي فشلت في عرقلة هذه المفاوضات، إن عبر الضغط على الدول المفاوِضة، أو من خلال استهداف البرنامج الإيراني ودفع طهران إلى اتخاذ خطوات انفعالية وإعلان انسحابها من التفاوض.
وأمام كل هذه الاحتمالات، هل تخلت واشنطن عن شروطها ورضيت باتفاق بالحد الأدنى مع طهران من أجل التفرغ لملفات في مناطق أخرى من العالم، وهل تركت حلفاءها في المنطقة، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي ليبحثوا بأنفسهم عن مخارج لأزمتهم مع إيران من دون التوقف عند الآثار السلبية والثقة العربية بواشنطن كشريك حقيقي يمكن الاعتماد عليه؟ أسئلة لا بد من البحث عن أجوبة لها في القريب العاجل.
المصدر: اندبندنت