“حارة كل مين إيدو إلو”
لا أعتقد أن هناك مواطناً لبنانياً لا يريد لبلده أن يستقر ويتطور ويزدهر، ولا يريد لبلده أن ينعم بحكم وسلطة يتصرفان وفق القانون والدستور ويعملان وفق إدارة رشيدة.
قد يكون هذا الأمر صعب المنال في لبنان لعلة في المنظومة السياسية اللبنانية ورجالاتها ولعلة أيضاً في جزء كبير من الشعب اللبناني، وقد فقد هؤلاء كل منطق وعقل ورؤية، فتحولوا إلى مجموعة من الغوغائيين وغالبيتهم ضحايا لعملية غسل أدمغة وشعارات لم تأتِ عليهم وعلى اللبنانيين سوى بالخراب والانهيار.
فالمواطنون الذين رافقوا القاضية غادة عون في غزوتها لمؤسسة مكتف المالية وفي مثولها أمام مجلس القضاء الأعلى يشعر العديد منهم بعمق المأساة التي نعيشها في البلد، ويريدون بالفعل أن يعرفوا من سرق أموالنا وأموال الدولة وإذا كان بالإمكان استعادتها، ولكن هؤلاء ذهبوا مع القاضية عون باتجاه الهدف الخطأ، فأموال اللبنانيين المنهوبة وأموال الدولة المسروقة ليست في مؤسسة مكتف ولا ودائع المواطنين في المصارف في مؤسسة مكتف، ولا الذهب العائد لمصرف لبنان موجود في مؤسسة مكتف، لقد ساهم هؤلاء المواطنون مع القاضية عون في حرف أنظار باقي المواطنين عن الجهات والوزارات والمؤسسات والصناديق والمجالس التي ضاعت فيها الأموال، لقد ساهموا في إثارة الغبار حول حقيقة من يريد التدقيق الجنائي بالفعل في مصرف لبنان وغيره، لقد نسي هؤلاء أن رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان يتحدث ليل نهار عن اكتشاف مع وزارة المال أن هناك 27 مليار دولار مشكوك في أمر صرفها، منذ العام 1997وحتى العام 2017 وأن الملف موجود ومجمد أمام ديوان المحاسبة بحجة عدم وجود مدققين، ألا يستأهل ذلك أن يرفع أنصار القاضية غادة عون الصوت وأن يتوجهوا إلى ديوان المحاسبة أو إلى من يعرقل تعيين مدققين؟
أين مليارات التهريب وهي تهدر من الدعم الذي يعتمد على ما تبقى من ودائع الناس وليس في الأفق ما يشير إلى وقف دعم التهريب، لأنه من عدة مواجهة العدو الإسرائيلي ومؤامرات الحصار كما قال البعض. خذوا القضاة واذهبوا بهم إلى الحدود وهونيك المرجلة.
هذه المجموعة من الناس ظهر أنها لا تؤمن بالعدالة وبأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فهذه المجموعة ومن حركها قررت الاتهام وحددت المتهم واخذت القاضي إلى موقع الجريمة المفترض، وطلبت منه أن يصادق على ما تريد فرضه عليه وإن لم يلتزم برغبتهم أصبح هو موضع شك وهجوم أيضاً، ما نفع التحقيق عندها وهو يجري على وقع تجمعات شعبية وهتافات وعناصر متوترة وتتلقى أوامرها عن بعد؟ ما نفع التحقيق إذا كان عبارة عن عملية شكلية هدفها فقط تكريس ما يريد هذا الطرف السياسي؟ وكيف لقاض أن يخوض في تحقيق شفاف ونزيه ومهني وهو يعمل تحت ضغط أو بمساعدة مجموعة شعبية تفتش عن فريسة وتريد أن تجدها فورا؟
ما هكذا تحصل التحقيقات ولا هكذا تعود الحقوق، هكذا يسقط التحقيق وهكذا يفلت الفاعل الحقيقي بفعلته، وهكذا يميع الملف وهكذا يدمر القضاء ومن بعده الجيش ربما بإثارة تمرد هنا وتمرد هناك ضد رأس السلطة القضائية أو ضد قيادة الجيش، تخيلوا لو أن كل فريق سياسي يرافق بأنصاره القضاة المحسوبين عليه إلى موقع أي جريمة أو قضية كلفوا التحقيق بها، تخيلوا ان يذهب هؤلاء مثلاً إلى خصومهم السياسيين مع القضاة المحسوبين عليهم بعرض محاكمات ميدانية تسبق محاكمات صورية، تخيلوا أن ضابطاً مثلاً رفض الالتزام بأوامر قيادته وأعلن أنه يتلقى أوامره من هذا المسؤول أو ذاك، من هذه الجهة أو تلك، وأتت الجماهير تدعمه وتصفق له وترافقه في مهامه، تخيلوا عندها كيف أن ما تبقى من مؤسسات ستنهار الواحدة تلو الأخرى.
في لبنان نريد جميعاً الحقيقة ولا نريد مزايدات واستعراضات لإثبات أن نسبة الوطنية عند هذا المكون أو ذاك مرتفعة أو منخفضة، ولكن تلك الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال مؤسسات وسلطات فاعلة ومستقلة ولا تشكل أداة لأحد، وهذا ما يتحقق في دولة فعلية وليس في “حارة كل مين إيدو إلو”.