تحقيقات - ملفات

عطوان: المفاوضات السعودية الإيرانية “السرية” في بغداد تتأكد فلماذا الإصرار على النفي؟ وما هي الأسباب التي دفعت الرياض للانخراط فيها وبسرعة؟

عبد الباري عطوان-رأي اليوم

في السبعينات من القرن الماضي، كتب الأستاذ تركي السديري عميد الصحافيين السعوديين، ورئيس تحرير صحيفة “الرياض” شبه الرسمية مقالا انتقد فيه الإعلام السعودي الرسمي، والقيود المفروضة على رجال الصحافة والإعلام وتغطيتهم للأحداث الداخلية والعربية والدولية، وأطلق من وحي هذه السياسات الإنغلاقية على وكالة الأنباء السعودية تسمية “وكالة نفي” لأن معظم ما تبثه من أخبار، إلى جانب استقبالات الملك والأمراء، ووداعهم لضيوف المملكة، هو نفي أي تقرير إخباري عن المملكة في الصحافتين العربية والعالمية، الراحل السديري الذي طفح كيله، وكتب ما كتب، خسر وظيفته، وحل عليه الغضب، وكان محظوظا لأن هذا الغضب لم يدم إلا عاما واحدا عاد بعدها إلى مكتبه.

تذكرت الصديق الراحل السديري وأنا أتابع إصرار المسؤولين السعوديين على نفي أنباء باتت مؤكدة عن عقد محادثات سعودية إيرانية في العاصمة العراقية بغداد ترأس السيد خالد بن علي الحميدان رئيس جهاز المخابرات الوفد السعودي، بينما ترأس الجنرال علي شمخاني، الأمين العام لمجلس الامن القومي الإيراني الوفد الإيراني، وأكدت عدة وكالات أنباء عالمية مثل “رويترز” ووكالة الصحافة الفرنسية، وقبلها صحيفة “الفايننشال تايمز”، وحكومات غربية، هذا اللقاء الذي تمخض عن تشكيل لجان فنية أمنية لمواصلة بحث الملفات الرئيسية وأبرزها حرب اليمن والأوضاع في لبنان.

هذا النفي “الصارم” من الجانب السعودي خاصة، يذكرنا بنفي آخر تناول الاجتماع الثلاثي الذي انعقد قبل أشهر في مدينة “نيوم” وضم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي في حينها، علاوة على الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، فجميع المصادر الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية أكدت هذا اللقاء الثلاثي، ونشرت رقم الطائرة التي نقلت نتنياهو إليه، إلا الجانب السعودي الذي استمر بنفيه حتى كتابة هذه السطور.

أن تنفي السلطات السعودية التي يتواجد على أرضها الحرمين الشريفين “لقاء نيوم” فهذا أمر مفهوم، لحجم الحساسية والحرج الذي يمكن أن يترتبا عليه، لكن أن تصر على رفض انعقاد اجتماع جرى في عاصمة عربية (بغداد)، وبواسطة حكومتها، ومع دولة إسلامية جارة (إيران) فهذا أمر يثير الاستغراب، والكثير من علامات الاستفهام، فما العيب هنا؟

فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأعظم في العالم ومعها خمس دول عظمى أخرى تنخرط في مفاوضات “غير مباشرة” مع وفد إيراني، وتقدم كل التنازلات المطلوبة تجاوبا مع الشروط الإيرانية، للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني الذي انسحبت منه إدارة ترامب بضغط إسرائيلي عام 2018، فلماذا لا تسير السلطات السعودية على الطريق نفسه، وتسعى لحل جميع خلافاتها الإقليمية مع الجار الإيراني المسلم؟

لم يعد سرا أن المملكة العربية السعودية تورطت في اليمن، وأنهكتها حرب الاستنزاف التي تخوضها هناك منذ أكثر من ست سنوات، ووصلت الصواريخ الدقيقة، والطائرات المسيرة الملغمة، إلى كل منشآت نفط شركة أرامكو في الرياض وجدة وينبع والظهران وخميس مشيط وجازان، وبات الاستمرار في هذه الحرب نوعا من الانتحار العسكري والسياسي والمعنوي، ولهذا فإن البحث عن مخرج لإنهاء هذا التورط، والتفاوض مع إيران الداعم الأكبر وربما الأوحد، لحركة “أنصار الله” الحوثية وحلفائها، بعد أن غسلت أمريكا يديها، وقررت وقف بيع الأسلحة والذخائر، يعتبر قمة الحكمة والتعقل والبراغماتية.

ها هي الولايات المتحدة القوة العظمى تعلن، وبعد عشرين عاما من التورط في حرب أفغانستان، سحب جميع قواتها قبل حلول الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، ولا تتردد في التخلي عن جميع حلفائها الأفغان، والاعتراف بالهزيمة وعدم القدرة على الاستمرار بعد خسارة ترليوني دولار، ومقتل 2400 جندي و23 ألف جريح، علاوة على مقتل 65 ألفا من حلفائها في الجيش الأفغاني الحكومي.

الجلوس مع الإيرانيين في بغداد وبمبادرة سعودية، ومحاولة إيجاد حلول لكل الملفات العالقة، خطوة ربما تعكس سياسة سعودية جديدة عنوانها الأبرز التخلي عن “العناد” و”المكابرة”، وكل السياسات الحالية التي وصلت البلاد إلى هذا الوضع الصعب، وبددت أكثر من 700 مليار دولار من احتياطاتها المالية على شراء صفقات أسلحة ابتزازية أمريكية، أجبرتها على بيع أسهم في شركة أرامكو درة التاج الاقتصادي في المملكة، وتجميد معظم مشاريع البنى التحتية، وغرق ميزانياتها في عجوزات ضخمة، واللجوء إلى الاقتراض من البنوك المحلية والدولية.

جميع المطالب السعودية بالمشاركة والحضور في مفاوضات بحث العودة للاتفاق النووي الإيراني جرى رفضها وتجاهلها، والشيء نفسه يقال عن شرط التوصل إلى اتفاق جديد يفكك الترسانة والبرامج الصاروخية الإيرانية، والأخطر من ذلك أن إدارة الرئيس بايدن هي التي استجدت إيران للتفاوض معها وعبر الوسطاء الأوروبيين، وفي ظل هذا الوضع ليس هناك أي خيار أمام السلطات السعودية غير اللجوء إلى الوسيط العراقي لترتيب اللقاء مع الإيرانيين في بغداد يوم 9 نيسان (إبريل) الحالي، لتجنب صدمة مماثلة للأخرى التي تمخضت عنها المفاوضات السرية الأمريكية الإيرانية في مسقط عام 2015، وتمثلت في التوصل إلى الاتفاق النووي.

حتى لا يساء فهمنا كالعادة، نحن مع هذا اللقاء السعودي الإيراني، ونأمل أن يأتي في إطار إجراء مراجعات استراتيجية جدية، لكل السياسات التي أدت إلى وصول المملكة، وحلفائها في دول الخليج إلى هذا الموقف الصعب والمحرج، وأول بند في هذه المراجعات يجب أن يكون وقف الحملات الإعلامية “الساذجة”، وتفكيك الامبراطوريات الصحافية والإعلامية، التي أنشئت لأجل هذا الغرض، أو ترشيدها، والاعتماد على النفس تسليحا وتنمية، وإطلاق الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد والفاسدين، ورفع سقف الحريات واحترام حقوق الإنسان، والعودة إلى العالمين العربي والإسلامي، والتخلي عن سياسات التدخل في شؤون الدول العربية (سورية ليبيا اليمن العراق)، ووقف إثم التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي هزت صورتها ومكانتها وقيادتها للعالم الإسلامي.

إيران ليست “دولة مجوس” وشعبها المسلم لا يعبد النار، ومرشدها الأعلى عربي من آل البيت يتحدث العربية أفضل من معظم الزعماء العرب، وسياسة محاربتها بالتحريض الطائفي فشلت وأعطت نتائج عكسية، إيران قوة إقليمية عظمى تقاتل بأسلحة صنعتها، وقاومت الحصار الأمريكي أربعين عاما، وباتت الدول العظمى تطلب ودها، ومن يريد أن ينافسها أو يحاربها عليه أن يفعل مثلها أولا، ولا يعتمد على الآخرين، أمريكيين كانوا أو إسرائيليين.. وقولوا ما شئتم.

أقلام حرة

المصدر: عبدالباري عطوان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى