بعد “سيمنز” شركات من برلين تقترح خطة شاملة لإعادة إعمار المرفأ والمنطقة المجاورة المهدّمة هل “تُلدغ” الشركات الألمانية من “جُحر” الفساد اللبناني مرّتين؟
في أوائل أيلول من العام الماضي، وبعد أقل من شهر على جريمة انفجار المرفأ اصطحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته إلى بيروت وفداً عريقاً من رجال الأعمال. وفُهم من طبيعة المجموعة المرافقة، التي ضمت المصرفي سمير عساف ورجل الأعمال المختص بادارة المرافئ والشحن البحري رودولف سعادة، أن إنقاذ القطاع المصرفي وإعادة إعمار المرفأ ممكنان؛ فتأملنا خيراً. لكن سرعان ما أُحبطت المحاولة، وفُشّلت كل الجهود الساعية إلى الإنقاذ من بوابة الخلاف السياسي المستفحل. ومع نهاية آذار الفائت، أعلنت مجموعة من الشركات الخاصة الألمانية عن إعدادها خطة شاملة لتطوير المرفأ والمناطق المجاورة، وتأمينها التمويل الضخم لهذه العملية. فهل يتكرر إحباط المسار الفرنسي مع الخطة الألمانية؟
الفرص متاحة
يقضي المشروع الألماني الجديد بتأمين تمويل يتراوح بين 5 و15 مليار دولار، من أجل إعادة إعمار المرفأ والمنطقة المتضررة المجاورة بمساحة مليون متر مربع. جزء من التمويل، مقدر ما بين 2 و3 مليارات دولار، سيُؤمن بحسب ما رشح من معلومات من بنك الإستثمار الأوروبي، والجزء المتبقي سيموّل عبر السوق المالية المحلية والعالمية. وليس من المستبعد أن يعمد تحالف الشركات إلى تأسيس شركة مساهمة، تصدر الأسهم، وتضطلع بعملية التمويل والإعمار. أهمية المشروع أنه مطروح من جانب القطاع الخاص الألماني وليس الحكومي وهو سينفذ بالتعاون مع شركة CMA CGM العملاقة. إذ إن مشاركة القطاع الخاص تطمئن إلى وجود بيئة مناسبة للإستثمار، وتشجع بقية الشركات العالمية المترددة على الحذو حذوها في حال تأمين شروط العمل المناسبة لها. بغض النظر عن التفاصيل التقنية الكثيرة، التي من المفترض أن تعرضها الشركات الألمانية خلال أيام في مؤتمر صحافي بعد الإنتهاء من عرض المشروع على المعنيين، فان أهمية المبادرة تتلخص بحسب النائب ياسين جابر بعنوانين رئيسيين:
الأول، أن الإنقاذ ممكن، ولبنان ما زال يشكل أرض الفرص، ولو أن البعض يحولها في كل مرة إلى ضائعة.
والثاني، أن لا حل سيبصر النور ما لم يتخل هذا البعض عن فكره المنفعي الضيق، ومساره التعطيلي.
لا نية للإصلاح مهما تعددت الإقتراحات
من دون الحاجة إلى الرجوع كثيراً في الزمن، يكفي التوقف عند العام 2018 واستذكار العروض الإنقاذية التي فُتحت للبنان. الألمان عرضوا خلال زيارة المستشارة أنجيلا ميركل إيجاد الحل للكهرباء عبر شركة “سيمنز”. والمجتمع الدولي نظم مؤتمر دعم للبنان جمع خلاله أكثر من 11 مليار دولار لتطوير البنى التحتية. و”ماكينزي” وضعت خطة استراتيجية لتطوير الإقتصاد ودعم القطاعات الإنتاجية. والفرنسيون قدموا مبادرة إنقاذية متكاملة. إلا أن “كل هذه الفرص الذهبية المتاحة جرى تعطيلها”، يقول جابر. و”الأسباب معروفة وواضحة، أنها لم تكن على بياض، وهي تتطلب القيام بجملة من الإصلاحات والإجراءات التنفيذية، فاصطدمت بعدم وجود نية فعلية للإصلاح وبناء الدولة، لأنها ببساطة تعاكس مصالحهم الضيقة”. حتى أن إدعاء البعض بان المطلوب حكومة بصلاحيات إستثنائية لتنفيذ الإصلاحات، نقول لهم: “فلتطبق الحكومة القوانين الموجودة، وكتّر خيرها”، يضيف جابر. “فالمشكلة لم تكن يوماً بالقوانين والمسموحات؛ إنما بالممنوعات. فقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص موجود، والقوانين الإصلاحية مقرة، ومثلهما قانون تنظيم الأسواق المالية المقر في العام 2011، إنما العقبة تكمن في التطبيق”.
حكومة بتفويض جماعي شرط أساسي للإصلاح
على الرغم من استفحال الأزمة، ما زال الإقتصاد الكلي يحتفظ بالكثير من نقاط القوة. فالمرافق الحيوية من شركات الكهرباء، والإتصال، والنقل… وغيرها الكثير، ما زالت كلها بعهدة الدولة ولم يخصص منها شيء. والمرافئ البحرية، ومنها تحديداً بيروت وطرابلس، يشكلان نقطة جذب جيو-استراتيجية، نظراً لموقعهما المييز على شرق البحر الأبيض المتوسط. أكثر من ذلك، “ما زلنا نملك ما يقارب 32 مليار دولار من احتياطيات العملة الصعبة”، بحسب جابر. و”هي تتيح للبنان، لو كانت هناك حوكمة وحكم رشيد وضمانات فعلية من عدم الهدر والسرقة، استعمال جزء بسيط من هذه المدخرات للإنتهاء لمرة واحدة وأخيرة من مشكلة الكهرباء، التي تعتبر أكبر المشاكل وأكثرها مراكمة للدين، وهدراً للمال الخاص والعام”.
إنجاح مبادرة الشركات الخاصة الألمانية يتطلّب وجود حكومة تملك تفويضاً من الجميع على تطبيق الإصلاحات. و”هذه الإسطوانة تآكلت على كثرة تكرار جميع الأفرقاء من السعوديين والفرنسيين والمجتمع الدولي والبنك الدولي… المعزوفة نفسها الداعية للإصلاح وتطبيق القوانين”، يقول جابر. و”ثاني أهم الشروط عدم إمتلاك فريق واحد لعصا الثلث المعطل ليهدد بوضعها في دولاب الحكومة عند كل قرار قد يضر بمصالحها أو لا تنتفع منه”. إذاً، الفرص موجودة. وهي لا تنحصر بالمبادرة الألمانية الأخيرة على أهميتها، بل بالكثير من المشاريع الإستراتيجية التي تعود إلى أعوام خلت وما زالت خططها، وموادها الأولية متوفرة. وللمثال نذكر مشروع سكة الحديد بين طرابلس وحماة السورية المعد في العام 2005، والذي استُورد، لانشائه وقتذاك، حديد بقيمة تتجاوز 2 مليون يورو. إلا أن المشروع نام في الأدراج ودفن الحديد في مرفأ الشمال. وبرأي جابر فان فرص نجاح الأفكار كبيرة جداً في بلد ما زال خاماً، شرط أن “يكون هناك قرار سياسي لاتعطيلي وعمل مؤسساتي حقيقي”.
أكثر ما يهدد المبادرة الألمانية بالفشل، هو محاولة المسؤولين المعنيين السمسرة عليها، أو ما يعرف بمصطلح الفساد اللبناني “يلحسوا إصبعون”. فصحيح أن الشركات العالمية التي تعمل في بيئة فاسدة تخصص جزءاً من موازنتها لإرضاء الفاسدين من أصحاب القرار، إلا أنها غير مستعدة لتعمل بخسارة. وهذا ما حدث مع شركة “سيمنز” التي ينقل عن مسؤوليها تفاجؤهم بحجم الفساد الذي كاد يخرجهم عراة لو قبلوا صفقة تطوير “الكهرباء”. فهل “تلدغ” الشركات الألمانية من “جحر” الفساد اللبناني مرتين؟ أم يتلقف الوطن المنهار الفرصة المقدمة “على طبق من فضة” ويحميها بـ”جفون العين”؟