هل نجا الأردن من «مؤامرة» التغيير ولهيب «الحريق العربيّ»
العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء
أنشئ الأردن في العام 1920 في سياق الخطوات التنفيذيّة لاتفاقيّة سايكس بيكو، وليكون إحدى جوائز الترضية للشريف حسين (شريف مكة)، الذي خدعه الإنكليز ونكثوا بوعودهم له (إنشاء المملكة العربيّة المتحدة في غربي آسيا بقيادته)، وكان الأهمّ بالنسبة لبريطانيا هو الدور والوظيفة التي أسندت لهذه الدولة التي لم يكن لها وجود في التاريخ قبل العام 1920، وكانت في بعضها جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام وفي الجزء الآخر في الصحراء العربية. وبالتالي وجد الأردن ترجمة لترضية ووظيفة ووضع تحت رعاية عميقة من الدولة المنشئة (بريطانيا) رعاية شاملة كل شيء وفي مطلعها ضمان الوجود والاستمرار والاستقرار والوظيفة.
فللأردن دور وظيفيّ أساسيّ بنظر الدولة المنشئة والمؤسسة، دور يتصل بتنفيذ وعد بلفور وإنتاج البيئة الملائمة لنجاح التنفيذ، هذا الوعد عبر عزل فلسطين عن العمق العربيّ ليعطى اليهود حرية أكبر في تهيئة قيام دولتهم ثم لحماية هذه الدولة، وقد وفرت بريطانيا كلّ متطلبات الدولة الوليدة تحت اسم «إمارة شرقي الأردن» التي توسّعت بعد تقسيم فلسطين وسقوط مشروع إقامة الدولة الفلسطينية كما ينص قرار التقسيم 181 لتضمّ الضفة الغربية لنهر الأردن وتصبح مملكة، ثم انحسرت بعد العام 1967 وانتقلت مسؤولية الضفة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وعادت لتستمر دولة قائمة على شرقي الأردن تحت اسم المملكة الأردنيّة الهاشميّة. وفي كل المراحل والأطوار لم يتغيّر في الفكر الغربي عامة والبريطاني خاصة الدور الوظيفي للأردن لأنه بالنسبة لهم مرتبط بعمق بوجود الكيان الصهيوني واستمراره الكياني والوظيفي أيضاً.
لقد استفاد الأردن مما أسند اليه من وظيفة، وقام بدوره خاصة في عهد الأمير/ الملك المؤسس عبدالله الأول ثم الملك حسين بحنكة وبذكاء لافتين، لكن مع الملك عبدالله الثاني تعقدت الأمور واهتزت المفاهيم إلى أن أطلق ترامب ما أسمي «صفقة القرن» التي ترجمتها ما أسميت «اتفاقات أبراهام» الخداعيّة التي قادت دول عربية في الخليج وأفريقيا بالاستسلام للعدو عبر عملية تزوير المفاهيم والمصطلحات واعتماد تسمية «التطبيع»، والأخطر في الصفقة هو شطب الدولة الفلسطينية من على أرض فلسطين التي جعلتها «صفقة القرن» كلها لـ «إسرائيل» تبتلعها على مراحل يفصل بين المرحلة والأخرى وقت يكفي لهضم ما ابتلع في المرحلة السابقة.
وهكذا نرى أنّ «صفقة القرن» أجهزت أو كادت، على الدور الوظيفيّ للأردن، لا بل جعلت الأردن المتمسّك بوجوده دولة يعيش فيها العرب من أردنيين وفلسطينيين عائقاً في وجه تنفيذ الصفقة وهي ترغب بتحويله إلى وطن بديل ودولة بديل عن ضائع للفلسطينيين، ما جعل الملك عبد الله الثاني ينظر بريبة للصفقة تلك التي تنسف دولته وتشكل خطراً وجودياً عليها، ولذلك امتنع عن القيام بأيّ تصرف أو سلوك يؤدي إلى تسهيل نجاح الصفقة، خاصة أنّ حنقه ازداد بعد أن تنامى إلى سمعه قرار «إسرائيلي» أميركي سعودي بنقل رعاية الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس من يد الأردن إلى يد بني سعود.
بيد أنّ الأردن ورغم اتفاقية الصلح الأردني مع الكيان الصهيوني (وادي عربة) وما تنص عليه من إقامة «علاقات عادية» بين الطرفين، وبقيادة الملك عبد الله الثاني، تشدّد في التعامل مع «إسرائيل» خاصة بعد مسيرة «اتفاقات أبراهام» حتى وصل إلى حدّ رفض الترخيص لطائرة «إسرائيلية» بعبور أجواء الأردن لانها كانت ستقلّ رئيس وزراء كيان العدو من القدس إلى الإمارات العربية في رحلة «تطبيع». كما امتنع عن تلبية مطالب سعوديّة وصهيونيّة مشتركة تصبّ في خدمة المشروع التصفوويّ للقضية الفلسطينية على حساب الأردن.
أثار الرفض والعرقلة الرأسين المتبقيين من رؤوس مثلث «صفقة القرن» بعد أن شطب الرأس المؤسّس الأول لها – دونالد ترامب – ما دفع هذين الرأسين المتحالفين محمد بن سلمان (مبس) ولي العهد السعودي وبنيامين نتنياهو إلى اتخاذ قرار إزاحة الملك عبد الله والإتيان بخلف له يكون مسهّلاً للمشروع ويبدو أنهما وجدوا في مشروع الانقلاب الحلّ برأيهم.
بيد أنّ حسابات النتائج لم تأت وفق تقديرات التخطيط والتنفيذ حيث ساهمت أخطاء تنفيذية في الداخل مع عناصر تحذيرية من الخارج بفضح المؤامرة التي أسند تنفيذها إلى ولي العهد السابق الأمير حمزة الابن الأكبر للملك حسين الراحل من زوجته الأميركية الجنسية والعربية الجذور والتي سمّاها بعد الزواج باسم «نور الحسين» وجعلها ملكة خلافاً لبعض زوجاته السابقات التي لم ينعم عليهن بهذه المنحة المكرّمة.
فشل مشروع الانقلاب، واعتقل الأساسيون فيه من ضباط وسياسيين وإداريين وإعلاميين، ووضع الأمير حمزة تحت الإقامة الجبرية ينتظر قراراً ملكياً بشأنه، لكن الأمير الموقوف رفض التدابير المتخذة بحقه وزعم أنه لم يساهم بأيّ عمل يهدّد استقرار البلاد وأمنها، وأنّ جلّ ما قام به وما هو مُصرّ عليه «انتقاد الفساد المستشري في الدولة بشكل يفقرها ويُحرم المواطن من فرص العيش الكريم، وانه لا يطلب حكماً لنفسه، بل يريد إصلاحاً وتطهيراً لدولة أبيه وجده».
لقد شكلت العملية الأمنية الوقائية الاحتوائية التي نفذها الملك عبد الله ضدّ الانقلاب عليه معتمداً على مَن يدين له بالولاء المطلق من الأجهزة العسكرية في المخابرات العسكرية والأمن العام، شكلت ضربة قاصمة لخصومه وعلى رأسهم أخوه غير الشقيق (عبد الله هو البكر من أم إنكليزية هي أولى زوجات الملك حسين) ولكن ورغم التأييد الخارجي العلني للعملية (بما في ذلك السعودي!؟) ورغم التفاف القوات المسلحة بكلّ صنوفها حولها، فإنها لا تعتبر قد أنهت المأزق خاصة أنّ الأمير حمزة يعتبر أن له في الداخل مؤيدين ويعتقد أنّ أميركا لن تتخلى عنه نظراً للدور الذي تلعبه أمه خاصة مع الديمقراطيين ثم نظراً لاستناده ظاهراّ على دعوة إصلاحية ومحاربة الفساد.
لهذا نرى أنّ الأردن دخل في دائرة خطر عدم الاستقرار وأن مصيره سيكون رهن تجاذب دوليّ وإقليميّ، ما يطرح أسئلة جدّية حول هذا المصير تتمحور حول السؤال: أي أردن سيكون مع المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة؟
سؤال يطرح ربطاً بما قدّمنا أعلاه مضافاً اليه نتائج الحرب الكونيّة على سورية ومحور المقاومة وإقدام أميركا على إلزام الملك عبد الله بتوقيع اتفاقية عسكرية معها تحوّل الأردن إلى قاعدة عسكرية أميركية كبرى تجهّز لتكون بديلاً للقواعد العسكرية القائمة الآن في العراق وتركيا، قاعدة توفر قوة عسكرية أميركية ذات هيبة كافية لحراسة المصالح الأميركية المتبقية من دون الاضطرار إلى العمل العسكري الميدان وفتح الجبهات والحروب.
وعليه نرى أنّ الملك عبد الله ربح جولة في وجه خصومه وثبت مرحلياً الأردن في موقعه، لكنه من السابق لأوانه القول بأن الأمر حُسم وانتهى وانه حدّد كيف سيكون شكل الأردن في سياق الحلول التي تنتظر المنطقة والتي هي على عتبة مرحلة البحث عن تلك الحلول بعد فشل الحرب الكونية وفشل الحرب الغربية وانتصار محور المقاومة وحلفائه، وسيكون الأردن كما لبنان في وضع قلق ينتظر ما سيكون الوضع عليه عندما يحين وقت الحلول. ففي مرحلة الحلول تطمئن الدول المنتصرة ذات البعد الكيانيّ كسورية وتقلق الدول ذات البعد الوظيفي كالأردن.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي.