معركة زحلة 1981… عن الإنتصار على الأسد بسلاح التدويل
“ليبانون ديبايت” – د. وليد فارس من واشنطن
كثيرون كتبوا عن معركة زحلة في نيسان 1981 متناولين جوانبها العسكرية واللوجستية، والسياسية الداخلية، ولكن ما كُتب عن المعادلة الدولية والاقليمية، وحتى عن الخيارات الاستراتيجية لمن قادها على الصعيد اللبناني، كان قليلاً إلى حد ما. فالإستبسال القتالي لأفراد “القوات اللبنانية” التي خاضت المعارك وشاركت في حماية المدينة، وصمود الاهالي الذين عانوا وضّحوا، والمساعدة التي وفّرها الجيش اللبناني خلال تلك الحقبة، بالإضافة إلى عمل طواقم البلديات، والصليب الاحمر، والهيئات المدنية والكنسية والمؤسسات الانسانية، وغيرهم، معلوم وموّثق ويتذكره الكثيرون من الذين عاشوا التجربة مباشرة.
ما هو غير معروف جيداً أو بشكل كامل في هذا السياق، هي المعطيات الاستراتيجية والاقليمية والدولية، والمعادلات التي تحكّمت بالمعركة على الصعيدين الديبلوماسي والاعلامي. فمعركة زحلة كانت الأكثر “تدويلا” في السنوات الستة الأولى من الحرب اللبنانية الكبرى، وسأنشر جزءً من هذا الموضوع في مذكراتي على صعيد العلاقات الدولية. ولكن في الذكرى الأربعين للثاني من نيسان 1981، هذه بعض النقاط التي قد تساهم فهم هذه المجابهة في حينه وبشكل ملخّص:
1- الأبرز في معركة زحلة، أنها كانت بين الجيش السوري وبين فريق من اللبنانيين، وليس بين أطراف لبنانية، مما ساعد كثيراً على الصعيد الدولي في إزالة صورة “الحرب الطائفية بين اللبنانيين.”
2- وحدة الصف داخل المدينة وتصميم الاهالي على المجابهة، وفّر الغطاء الشعبي للمقاومة، وقتها. فالرئيس السوري كان مصمّماً على السيطرة المباشرة على المدينة، كما كانت الحال في شمال لبنان منذ 1978، لقطع الطريق أمام بشير الجميل و”القوات اللبنانية” لجهة إدخال وحدات الى المدينة، وفتح ممرّ أرضي بين زحلة وكسروان، وضّمها الى “المناطق المحررة”.
3- هدف بشير كان إضافة زحلة الى المساحة الحرّة من لبنان، وهدف الأسد كان منعه، وإيصال قواته إلى عيون السيمان. دولياً تحوّل مفهوم معركة زحلة الى معادلة بين احتلال سوري متحالف مع السوفيات من جهة، وإيران من جهة أخرى، و بين جبهة لبنانية مدعومة من الأهالي و الجيش. وهكذا معادلة بات من السهل على الغرب أن يفهمها، و ليست حرباً أهلية معقدة بين طوائف.
4- ساهم وقوف الوزراء المقيمين في “المناطق الحرة”، والكنائس، صفاً واحداً، في إعطاء المعركة دفعاً خارجياً اكبر. فحصلت “الجبهة اللبنانية” و”القوات اللبنانية” على اعتراف شبه شرعي “بتمثيل” الجزء الحرّ من البلاد.
5- بالتالي، ولولا وجود “مناطق حرة” بطريقة أو بأخرى في لبنان، لما كانت معركة زحلة أو أية معركة اخرى، ممكنة. ومنطق وجود مساحة حرّة هو الذي يسمح بأي جهد داخلي أو خارجي، أن ينجح باستكمال التحرير الكامل.
6- يجب التنويه بفريق عمل بشير الجميل للعلاقات الخارجية في 1981، والذي كان يرأسه محام ذكي، ويعاونه فريق من الخبراء والأكاديميين، بالإضافة الى مثقفي و أكاديميي لجنة الكسليك. وتمكّنت هذه الماكينة من رفع ملف زحلة مباشرة إلى الأمم المتحدة. (سيكون لي كلام خاص عن العمل الخارجي فيما بعد).
7- بسبب كل النقاط السابقة الذكر، غطّى الإعلام الدولي، بما فيه اليساري،أحداث زحلة بشكل ملحوظ. وكان التركيز على المدنيين في المدينة، وليس على السياسيين في بيروت، بمن فيهم بشير الجميل، ما ساعد كثيراً في التأثير على الرأي العام الدولي.
8- لعب الإغتراب اللبناني خصوصاً في فرنسا، وأميركا، و المكسيك، دوراً مهماً في التعبئة ضد هجوم قوات الأسد، و أثّر ذلك على الفاتيكان و أميركا اللاتينية.
9- أحسن فريق الخارجية التابع للجبهة اللبنانية، الذي كان يعمل من مقرّه في محّلة السيوفي، في اختياره للخطاب الديبلوماسي، مما أثّر على إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان والحكومة الفرنسية، وصدر عنهما تحذيرات الخط الاحمر. وتأثرت القيادة السوفياتية بالمشهد الموحّد للجبهة الشعبية الداعمة لزحلة في لبنان، فحذّرت حليفها الأسد ، بأنها لن تتدخل في هذه المعركة بالذات، وذلك عندما رأت التأييد الغربي الحازم. فتردّد الأسد بزجّ قوات أكبر لاجتياح المدينة. فالمقاومة شرسة، والإعلام ليس محبّذاً، والمسألة قد تطول، والسوفيات غير متحمّسين، وبالتالي فالثمن سيكون باهظاً.
10- أضف ألى ذلك، أن الوضع الاقليمي بدأ ينقلب ضد الاسد، مع استياء السعودية ومصر في نفس الوقت، بالإضافة الى العراق، إلى أن جاء التطور الاخير الذي قضى على هدف القيادة البعثية السورية بالسيطرة على أكبر مدن البقاع. فبعدما كانت قوات المظلّيين في “الجيش العربي السوري” قد طوّقت زحلة من ناحية قاع الريم، وبدأت بالسيطرة على الطريق الجبلي الذي يربط هذه الأخيرة بجرود كسروان، بدأت المروحيات القتالية الثقيلة، بإنزال القوات الخاصة على قمم السفح الشرقي للجرود، وسيطرت على “الغرفة الفرنسية” في جرد عيون السيمان فتراجعت “القوات اللبنانية”، وباتت المناطق المحررة على شفير الانهزام. عندها قامت المقاتلات الاسرائيلية، ربما بإيحاء اميركي، واحتمال موافقة غير علنية عربية، بإسقاط المروحيات العسكرية المهاجمة، كرسالة قوية ومباشرة للأسد، بأنه خرق “الخطوط الحمراء” وعليه أن يتوقف، فتوقف.
بعدها تواصلت الاتصالات، وتم الإتفاق على التسوية المعروفة من الجميع. زحلة تبقى حرّة، من دون وجود “قواتي” ظاهر. وتنسحب القوات الهجومية السورية التي حُشدت حولها.
شكّل عدم سقوط زحلة إنتصاراً لآلية استراتيجية قامت على ما يلي:
-قرار بالمقاومة مهما كلف الأمر.
-إحتضان شعبي للمقاومة.
-تعبئة اغترابية شاملة.
-خطاب منطقي مقبول دولياً.
-حد أدنى من الوحدة السياسية.
-قيادة تضع القضية قبل القيادة.
-تصرّف المقاومة مهنياً وليس بشكل أرعن.-
-فهم دقيق للمعادلة الإقليمية والدولية.-
-إبقاء الهدف بين حد أدنى وهو مدينة حرّة، وحد أقصى وهو رابط جغرافي مع المناطق الحرة.
نتائج معركة زحلة كانت كثيرة ومهمة، أبرزها:
أ- توطيد التدويل، أي التدخل الدولي على أساس حماية المدنيين. وهنا كانت لي مذكرة قانونية بهذا الخصوص في ذلك الاسبوع، كتبتها كمحام متخصص بالقانون الدولي، تم استخدامها من قبل الجبهة اللبنانية، ولجنة الكسليك و اللجنة المشرقية وقتها. (سننشر حولها فيما بعد). وكانت هذه الدراسة قد انطلقت من مذكرة سابقة في 1978 سبقت صدور القرار 246 إبّان حرب المئة يوم.
ب- تجانس الطواقم العاملة على الملفات السياسية والقانونية و الدفاعية، قبل وإبّان معركة زحلة، على الرغم من الخلافات و الحساسيات المعروفة في المناطق الحرة منذ بداية الحرب. فالوضع لم يكن مثالياَ، ولكن كان أفضل بكثير مما كان عليه خلال حرب السنتين.
ج- معركة زحلة ولو أنها لم تصل الى أقصى الاهداف، أي تحرير زحلة وربطها بجبل لبنان الحر، إلاّ أنها حررت المدينة ووضعت خطوطاً حمراء حولها وحول المناطق الحرة حتى 1990. وهذا ما أدّى إلى فرص التدويل الكبرى في 1982 مع صدور القرار 520 (سننشر حوله فيما بعد) و انتشار القوات المتعددة في بيروت قبل سلسلة النكبات المتتالية بعد ذلك…
إن معركة زحلة، كأي مجابهة في أية حرب، ليست ذكريات للفرح، ولكنها، كحلقة في تاريخ شعب أراد التحرر، محطة أنتجت أمثولة للأجيال التي أتت بعد ذلك. لا شيء مستحيل إذا كٌسرت عقدة الخوف، و توضّحت الاهداف، وحُكِّم العقل، وتضافرت الجهود، وأُزيلت الشخصانيات، وكان الهدف النهائي الحرية والعدالة و السلام.
للتاريخ.