«عليِّي وعلى اعدائي» .. على سطح «التايتانيك»!
أسبوع مرَّ على «حرب الرسائل» بين ميشال عون وسعد الحريري، ولا شيء يوحي بأنّ آفاق حل الأزمة الحكومية قريب. لا مبادرات الوسطاء ولا الحركة الديبلوماسية المكثفة ساهمتا في حلّ العِقَد المتراكمة بين الرجلين. لا بل أنّ التراشق الذي حصل في الايام الاخيرة، على خلفية كلام رئيس الجمهورية عن رئيس الحكومة المكلّف «الغريب الأطوار» (بحسب التوصيف الرئاسي)، يدفع الى الاعتقاد بأنّ «الجرّة انكسرت» بالفعل، وأنّه لم يعد هناك للصلح مطرح.
ما سبق تؤكّده الكثير من المعطيات، التي لم يكشف اللقاء الثامن عشر بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، بكل ما حمله من عواصف، سوى رأس جبل الجليد منها، والذي تبدو «التايتانيك» اللبنانية أكثر اقتراباً من الاصطدام به، إن لم تكن قد اصطدمت أصلاً، وقد بات أوان غرقها مسألة وقت قصير ليس أكثر.
هكذا يقع لبنان مرة أخرى فريسة مناكفات سياسية فئوية، تبدو أقرب إلى «حرب إلغاء» جديدة. صحيح أنّ تلك الحرب سلاحها المواقف لا البارود، إلّا أنّ آثارها المدمّرة تتجاوز بأشواط كل لهيب الجولة الأخيرة من الحرب الأهلية، وهو ما بات ممكناً تلمّسه في مقاربة كل لبناني لأحواله المعيشية اليوم بعبارة «يا ما أحلى أيام الحرب»!
المشهد السوداوي تجلّى مجدداً بحديث للرئيس ميشال عون قبل يومين، حين اعتبر أنّ أربعة ملايين لبناني هم الآن رهائن مزاج الرئيس المكلّف الذي يضع التكليف في جيبه، ويستهجن إصرار الحريري على عدد الوزراء الـ18، مشدّداً على أنّ الرئيس المكلّف يحاول «إحراجه لإخراجه عن قواعد التشكيل السلمية»، ليأتي الردّ سريعاً من جانب الحريري، بتغريدة جاء فيها «وصلت الرسالة… لا داعي للردّ. نسأل الله الرأفة باللبنانيين».
هذا الفصل من فصول الحرب العبثية بين قصر بعبدا وبيت الوسط مرشح للتجدّد والتصعيد. أقلّه، هذا ما تشي به أجواء المعسكرين، التي انتقلت بالأمس من بازار التسريبات الإعلامية الى قاذورات وسائل التواصل الاجتماعي، التي اشتعلت مجدداً بين التيارين البرتقالي والأزرق، منذ أن سُرّبت صورة الطائرة الخاصة لسعد الحريري في مطار بيروت، وما أثارته من نكء لجراح الماضي، ولا سيما فاجعة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
اذا كانت تلك الحرب عبثية بالنسبة الى لبنان ككل، إلاّ أنّ ثمة ما يجعلها وجودية لدى كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. لا يمكن فهم تموضعات الرجلين الّا بالعودة الى العوامل المؤسسة لحالة المدّ والجزر في علاقتهما المعقّدة منذ العام 2005، وهو تاريخ مفصلي لكليهما. بالنسبة الى «فخامة العماد»، فإنّ ذلك العام كرّس دخوله المباشر في اللعبة السياسية اللبنانية بعد سنوات المنفى الباريسي، في حين مثلّت بالنسبة الى «دولة الرئيس المكلّف» البداية الفعلية لمسيرته السياسية غداة اغتيال والده.
وعلى موجة متوازية، تأرجحت شعبية الرجلين بين نقطة الذروة بالنسبة الى الحريري في خضم «ثورة الأرز»، وبالنسبة الى عون في خضم «تسونامي» انتخابات العام 2005، ليعاود كل منها مساره صعوداً وهبوطاً، بعدما طالتها «لعنة» اللعبة السياسية في لبنان، والتي افرزت جملة تسويات سياسية، كان أهمها التسوية الرئاسية عام 2016، التي شكّلت منعطفاً خطيراً في تهاوي شعبية البرتقاليين والزرق، بعدما بدا أنّ محرّكات «التايتانيك» اللبنانية ومكابحها قد تعطّلت، بعدما أبحرت بسرعة في مجاهل «جبل الجليد» الاقتصادي، وهي المهمّة التي تولاها رياض سلامة نيابة عن كافة مكونات الطبقة السياسية، تماماً كما حدث في الكارثة البحرية الأشهر قبل أكثر من قرن.
هكذا جاءت بوادر الانهيار الاقتصادي لتستنفد كل محاولات تعويم شعبية عون والحريري معاً، ابتداءً بـ»وثيقة التفاهم» في مار مخايل وصولاً الى التسوية الرئاسية. ولذلك، لم يعد ممكناً للرجلين إلّا خوض حرب وجودية، عبر إعادة التموضع مذهبياً، ولو على حساب الوضع بكل طوائفه ومذاهبه.
انطلاقاً مما سبق، لم يعد بإمكان ميشال عون، ومن خلفه جبران باسيل، إلّا التصعيد لشدّ العصب المسيحي، الذي من دونه لا يمكن أن تتحقق الاحلام الرئاسية لـ»الصهر»، خصوصاً في ظلّ حالة التسرّب التي يعاني منها «التيار الوطني» منذ بدء انتفاضة 17 تشرين، والتي جاءت لتصبّ في رصيد القوى المسيحية التي تماهت مع الحراك الشعبي أو ركبت موجته، ناهيك عن رصيد قائد الجيش العماد جوزيف عون، في بلد شاء القدر الطائفي أن يصبح كل قائد للمؤسسة العسكرية مرشحاً محتملاً للرئاسة.
كذلك، لا يمكن فهم موقف سعد الحريري، في سياقه العام، الّا بالنظر الى الديناميات المحرّكة للشارع السنّي، لا سيما خلال السنوات القليلة الماضية، حين تبين أنّ ارث رفيق الحريري قد بدأت تتجاذبه قوى وشخصيات سنّية خارج العائلة الحريرية، وهو ما يجعل التشدّد في المواقف الحكومية يُصور اليوم أشبه بجهاد مقدّس لاستعادة صلاحيات رئيس الحكومة «السنّي»، برغم «الماكياج» العصري المتمثل بسرديات من قبيل «التمسّك بالمبادرة الفرنسية» وضرورة تشكيل «حكومة اختصاصيين».
وإذا كان سعد الحريري بحزم موقفه الرافض للثلث المعطل والحكومة التكنو-سياسية قد نجح حتى الآن في عملية «شدّ العصب»، فإنّ ميشال عون يبدو في هذه الحالة أقرب الى استعادة تجربة الثمانينيات، حين خاض حربي التحرير والإلغاء، واختار العداء للجميع، داخلياً وخارجياً، لدرجة أنّ السفير الفرنسي في ذلك الحين رينيه آلا، كاد يكون الديبلوماسي الوحيد الذي يزوره في «بيت الشعب» لأسباب متصلة بالتموضعات الفرنسية حينها.
أمام اجتماع كل هذه العوامل، يمكن افتراض، بقدر كبير من اليقين، أنّ كلاً من عون والحريري قد وصلا الى نقطة اللاعودة في العلاقة المضطربة بينهما، والتي لا يمكن تجاوزها إلّا بضغط خارجي، تبدّت ملامحه بالأمس في التحذير الصادر عن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، حين حذّر كبار المسؤولين اللبنانيين من أنّ الاتحاد الأوروبي يعكف حالياً على بحث سبل لممارسة ضغوط على من يقفون وراء عرقلة إيجاد حل للأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد.
إذا ما اقترن التحذير بالفعل، فمن غير المعروف كيف ستتطور العلاقة العونية-الحريرية. ومع ذلك، فإنّ سعد الحريري يمكن أن يقارب السيناريو الدولي المرتقب بقدر من البراغماتية التي تميّزه عن ميشال عون، الذي لا يزال يجاهر بشعاره الشهير «العالم يستطيع سحقي ولكنه لن يأخذ توقيعي»، ما يعني أنّ الضغط الخارجي يمكن أن يصبح عديم التأثير على الموقف العوني، طالما أنّ الحرب الوجودية غالباً ما تُقارب بمنطق «عليّ وعلى اعدائي»… وفي التاريخ اللبناني (وبالأخص التاريخ العوني) المعاصر الكثير من الشواهد على ذلك!