اسرار يكشفها الرئيس بري لاول مرة
الكاتب سامي كليب:
لا شيء يُفسّر إنهيار لبنان اليوم، أكثر من المعلومات الدقيقة ومحاضر الجلسات التي نشرها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي، في الكتاب الغني والشيّق والزاخر بالرسائل في كل إتجاه، الذي نشره قبل أيام الزميل الإعلامي والكاتب المُحترم والمحترِف نبيل هيثم.
ثمة حقائق في الكتاب تشرح ما حصل خصوصا منذ 2005 حتى اليوم، وحقائق أخرى تقلب المُعادلات، فالسعودية لم توافق على كل خطوات 14 آذار، وكان دورها توفيقيا، والرئيس فؤاد السنيورة هو المتصلّب وسبب المشكلة لا الرئيس سعد الحريري.
والذين أقروا قطع خطوط الاتصالات لحزب الله عام 2008 إعتذروا في الغرف المُغلقة خصوصا ان بري كان حذّرهم من الاقدام على ذلك، واللعبة الأقليمية والدولية كانت شرسة جدا في عامي 2007 و2008.
إحتل هذان العامان ( 2007 و 2008) حيّزا كبيرا من الكتاب ذي الأربعمة صفحة والأنيق الشكل كغنى المضمون والصادر عن “دار بلال”.
لعل في التركيز عليهما رسالة واضحة ذلك ان التشابه بين تعقيدات تلك المرحلة وما يحصل اليوم مذهل.
هذا ثاني كتاب لنبيل هيثم عن الرئيس بريّ. يُعتبر هيثم من أكثر الإعلاميين الذين عرفوا رئيس المجلس عن قرب وعايشوه وقابلوه، فولدت بين الإثنين ثقة عميقة، جعلت الرئيس يبوح باسرار كثيرة ويحذر من أن ” لبنان على طريق الجلجلة وقد يذوب ويندثر”، وجعلت سامعه يغربل أهمها، ويحذف الكثير ( مع الأسف) لكي يبقى الكتابان شبيهين تماما باستراتيجية ودور الرئيس بري، أي تدوير الزوايا، وتظهير ما يجمع لا ما يفتن وما يُصلح لا ما يفرّق في بلد يقف منذ استقلاله على كف عفاريت وليس عفريتا واحدا.
الجميل بطريقة السرد، ان نبيل هيثم يضع الإطار التاريخي للحدث والرئيس بري يروي بصيغة الأنا.
فيبدو الكتاب كحوار ولكنه ليس حوارا. هو وثيقة فعلية للتاريخ، وتحذير من تكرار أخطاء الماضي، وشرح لكيفية التحرك الدولي في الأحداث الكبرى.
هذه بعض الأمثلة عن المحاضر السرّية كما رواها برّي:
الأرتياب من فؤاد السنيورة:
بعد حرب تموز 2006، شهد لبنان إنقساما رهيبا، جرّاء الحملة التي شنّها فريق “14 آذار” على “حزب الله” وحمّل المقاومة مسؤولية الحرب.
وهو أمر كان ظالما ومرفوضا من قبلنا ومجافيا للحقيقة. وما فاقم هذا الانقسام أكثر ، هو منحى التفرّد الذي انتهجه السنيورة وفريقه، وتعمّد من خلاله كسرّ مبدأ الشراكة، الذي كان يفترض أن تلتزم به الحكومة…
كنتُ شديد الأرتياب مما يضمره السنيورة وفريقه .. عقدنا جلسة تشاور ( 10 تشرين الثاني 2006) وكان جالسا الى جانبي ومع ذلك لم يطلعني على نيته تحديد جلسة مجلس الوزراء لإقرار نظام المحكمة ( الخاص حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري).
قلتُ له: حاسس يا فؤاد، إنك بدّك تعقد جلسة لمجلس الوزراء، فقال: لا ما في جلسة، لم يقنعني جوابه، فكررت كلامي: خايف يا فؤاد إنك تكون عم تفكّر بعقد جلسة مثل المرّة السابقة. فانتبِه، المرة الأولى سبعة أسابيع إعتكاف، ولكن اذا بدّك تعملها مرة ثانية، فستكون أكثر وخطوات أصعب.
فقال لي: لا لن أعقد جلسة لمجلس الوزراء… الأسواء من ذلك هو أنه في اللحظة التي كان يجلس فيها الى جانبي، عيّن جلسة مجلس الوزراء خلسة ومن دون أن نعلم، حيث ترك مقعده على الطاولة خلال نقاشات التشاور وخرج من القاعة لبعض الوقت، ثم عاد، ليتبين أنه خابر أمين عام مجلس الوزراء في السراي الحكومي وطلب اليه تحديد جلسة مجلس الوزراء.
7 أيار حذّرنا ولكن..
في شرحة للخطوة التي أقدم عليها رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط في 2 أيار 2008 عبر الإعلان عمّا سمّاها “وثيقة سرّية” تتعلق بمراقبة حزب الله لمطار بيروت واتهمه فيها بمراقبة شخصيا لبنانية وهاجم فيها رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير.
يروي الرئيس بري التالي: ” كلام جنبلاط هذا كان بمثابة تمهيد لخطوات خطيرة قررتها حكومة السنيورة، وأما نحن فقد استبقنا تلك الخطوات بتوجيه إنذار مباشر وحذّرناهم من الإقدام على أية خطوة خطيرة ومستفزة لأنها ستفتح جُرحا لا يندمل …
المضحك المُبكي أنهم حاولوا آنذاك مقايضتنا بشأن ملفّي المطار وشبكة الأتصالات بأن تبادر المعارضة الى فك الاعتصام وسط بيروت ..
تمسّكنا بتحذيرنا أكثر … ووضعنا أمامنا ما قاله دافيد ولش عن الصيف الساخن، فكان لا بد من التحرّك وقلب الطاولة. …
هنا لا بد أن أشير الى أن فريق 14 آذار صُدم بسرعة الإنهيار الذي اصابه، وهو أمر صدم أيضا ، السفارات الأجنبية والعربية التي كانت ترعى دولها هذا الفريق”.
وهنا يسرد الرئيس بري كيف انهالت الاتصالات العربية والدولية والتركية عليه لوقف ما حصل، وكيف قال له رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان آنذاك انه لمس من السنيورة استعداده للوصل الى حل.
كما يروي كيف ان السنيورة قال امام بعض وزرائه ان الخطوة التي أقدم عليها كانت خاطئة وانه تهكّم على الإنهيار السريع الذي أصاب فريقه خصوصا مجموعات ” السيكيوريتي” التي جمعها تيار المستقبل قبل أحداث 7 أيار والتي هربت وتركت سلاحا وراءها.
اللافت في رواية الرئيس بري أنه غالبا ما يميّز بين تصلب السنيورة ومرونة الرئيس سعد الحريري الذي كان غالبا ما يوافقه على خطواته حتى ولو أنه كان يُعلن بين الوقت والآخر مواقف متشددة.
جنبلاط ونصر الله
كذلك يكشف الرئيس بري ان ” وليد جنبلاك اتصل بي آنذاك، طالبا تدخلي لتجنيب الجبل تمدد الصراع اليه، فابدرت الى الاتصال بقائد الجيش وكذلك بالسيد حسن نصر الله وبطلال أرسلان وتمكنت من الوصول الى توافق على تسليم المنطقة الى الجيش، وغداة ذلك اتصل بي الحريري وجنبلاط وقالا انهما مستعدان للوصول الى حلول ومخارج، وان الحكومة ستتراجع بالتأكيد وتلغي القرارين”.
كما ينقل الرئيس بري عن الشيخ حمد بن جاسم قوله ( في 13 أيار 2008) إن ” النائب وليد جنبلاط طلب مني أن ابلّغ السيد نصر الله عن لسانه بأن الخصومة بيننا مؤقتة وتزول وان جبل لبنان سيكون سندا للمقاومة وستكون بيروت حاضنة للمقاومة ولا بد من الاجتماع والحوار لوأد الفتنة”.
السعودية دور توفيقي
كثيرة هي الأماكن التي احتلها دور السعودية في الكتاب. واللافت أنه وفق رواية الرئيس بري كان دائما دورا توفيقيا بين الأطراف ساعيا الى الحوار والتقريب بينها ، مبتعدا عن دعم فريق ضد آخر.
فيروي التالي : قال لي السفير السعودي عبد العزيز خوجة ( بعد سلسلة تحركات في بيروت ومناطق عديدة لقوى 14 آذار ) ان المملكة العربية السعودية متوجّسة جدا مما يجري وهي حريصة على تهدئة الأمور وبصراحة اننا نعول على دور تلعبه ، يا دولة الرئيس، لمعاودة الحوار بين الأطراف.
في مكان آخر يقول الرئيس بري :” أخذ السفير خوجة يشكو أمامي من إتهامات البعض له بأنه منحاز الى جماعة 14 آذار وخصوصا الى تيار المستقبل، وقال: ” هذا اتهام باطل ويتناقض مع دوري المحايد الذي أقوم به كوسيط بين جميع الأطراف..
والدليل على حياديتي هو اللقاء الهام الذي جرى بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ووفد حزب الله “.
وفي مكان ثالث يؤكد نبيه بري ان السفير خوجة كشف له انه لم يكن على علم بمذكرة نواب 14 آذار الى مجلس الأمن بشأن المحكمة.
في صفحات أخرى يجري حديث الرئيس بري عن الدول العربية، وهو لا يذكرها الا بدورها التوفيقي الداعم للحوار الداخلي، ويشرح كيف دافع عن سوريا في خلال حواره مع الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند حين جاء الى لبنان، وكيف كان يشتبك مع الموفدين الأميركيين والبريطانيين حين يطرحون مسائل الارهاب وسلاح المقاومة والتدخل في سورية، لكننا نفهم من كل ذلك أن بري بقي بالفعل محور الحركة والاتصالات الدولية في كل الأزمات.
يقول:
قمت في 7 نيسان 2008 بزيارة سريعة الى دمشق، وقالي لي الرئيس بشّار الأسد إن سوريا مستعدة لكل مساعدة ممكنة يطلبها الأشقاء اللبنانيون من أجل تحقيق الأمن والاستقرار في لبنان.
لقد أعطتني زيارتي الى سوريا آنذاك، زخما جديدا ودفعا في سبيل الحوار. وحين زرت الرئيس مبارك لمست منه كل التشجيع وقال لي ان مصر تعتبر كل اللبنانيين أشقاء لها من دون تمييز وتسعى الى توافقهم عبر الحوار.
في الكتاب أسرار كثيرة عن أدوار الأطراف اللبنانية، وتشابه كبيرة بين ما جرى بالأمس وما يجري اليوم خصوصا ما يتعلق ب ” الثلث الضامن” أو ” الثلث المعطل”، ولا نفاجأ اذا ما رأينا أن ما كان يرفضه فريق بالأمس هو ما يطالب به اليوم والعكس صحيح..
من الروايات اللافتة مثلا ما حصل بين بري والرئيس اللبناني السابق أمين الجميل غداة تشييع نجله بيار الجميل الذي اغتيل في خلال موجة الاغتيالات. يقول رئيس المجلس:
أذكر أن الرئيس أمين الجميّل، الذي كان يتقبّل التعازي باسشهاد نجله الوزير بيار الجميّل ، اتصل بي طالبا اللقاء معي على عجل، وأوحى لي بأنه يحمل شيئا ما.
فاستقبلته في عين التينة وكان شاحبا، حزينا، فجامتله وواسيته بمصابه وخسارته لإبنه الشهيد بيار الجميّل، ثم طرح علي فكرة تفيد بأن فريق 14 آذار يقبل بفتح ملف رئاسة الجمهورية مقابل اقرار المحكمة ضمن لجنة قانونية، وبت أمر حكومة بثلث ضامن للمعارضة ( أي لقوى 8 آذار ).
يغيّب الرئيس نبيه بري روايات كثيرة، فهو مثلا يمر مرور الكرام على قضية استقالة الرئيس الحريري في السعودية،
ويمر مرورا عابرا على الزلزال السوري ، ويشرح لماذا تمسك بدعم سليمان فرنجية لا ميشال عون للرئاسة، ويعترف بالخطأ القاتل لقانون الانتخاب الأخير و ويشرح أسباب طرح حركة أمل لقانون عصري جديد، لكن الواضح من توقيت نشر هذه المعلومات أن الهدف هو تحذيري بالدرجة الأولى ويكاد يكون وصية رجل خبر السياسة بكل تفاصيلها واسرارها، وكان اللاعب الأكثر مهارة فيها بحيث تحول الى المرجع الوحيد لكل الأطراف.
ولكنه يرى جزءا لا بأس به من الناس حاليا يحمّلونه كما كل الطبقة السياسية مسؤولية الانهيار.
لعلّه عبّر عن لحظة الخطر بقوله :” بلغنا جميعا لحظة الإختيار بين أن يبقى لبنان ويستمر وطنا كريما عزيزا جامعا لشمل كل اللبنانيين، وبين أن يذوب ويندثر ويذهب معه الماضي والحاضر والمستقبل”.
هذا هو الثقب الأسود. فمن يسدّه؟ سؤال بقي مُعلّقا وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب الشيّق الذي لا شك سيثير ردود فعل وجدلا كبيرا ويستحق القراءة بعمق والتعليق عليه.