كتب المفكر المصري محمد أبوزيد: أمريكا هي أمريكا والسعودية هي السعودية.. ومن تجمعهم كوينسي لا يفرقهم خاشقجي
بقلم : محمد أبوزيد
تمخض الجبل فولد فأرا ..هذا ما يمكن قوله في رد فعل عفوي وتلقائي علي تقرير المخابرات المركزية الأمريكية حول قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، والإجراءات التي اعلنت عنها الإدارة الامريكية عقب نشر هذا التقرير الليلة الماضية .. فبحسب كبريات الصحف الامريكية الصادرة هذا الصباح فإن بايدن فإن الرئيس بايدن لم يجد أي سبيل لمعاقبة ولي العهد السعودي دون أن تتأثر العلاقات الامريكية بذلك.. لهذا جاءت قائمة العقوبات خالية من إسم محمد بن سلمان ..
التقرير ليس هزيلا كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى، فلو كان هذا التقرير يخص حاكم دولة لا تنتج سوي الجزر والخس لأستمتعت بالردح الأمريكي الذي يتجاوز المألوف بالحواري الشعبية ..لكنه – اي التقرير – قد راعى أن ابن سلمان هو المهيمن الفعلي على مقاليد الأمور بالسعودية، وأمريكا لا تريد أي هزة في العلاقات الراسخة بين البلدين منذ عام 1945، كما أنها تتحاشى أي رد فعل طائش على غرار ما أقدم عليه الملك سعود عام 1956 حين قرر طرد القوات الأمريكية من السعودية وإستبدالها بقوات مصر إبان أزمة السويس …وقد صدق حدس الإدارة الأمريكية ..فبعد لحظات من نشر التقرير إنطلقت الحملة السعودية الشعبية المضادة والمعدة سلفاً.
( لهم الظنون …ولنا محمد بن سلمان )
بل وأعلنت البحرين تضامنها مع ابن سلمان لتسجل بذلك اول حالة تمرد بين عملاء امريكا في المنطقة، وسيحذو آخرون حذو المنامة، فهذه مناسبة لا تعوض ليغني جميع المرتعدين من إدارة بايدن على ليلاهم ..
والحقيقة أن محمد بن سلمان لم يفعل شيئا يخدش النسق القيمي للأخلاق الأمريكية التي كتبت شهادة ميلادها بدم شعب كامل تمت إبادته دون ان يهتز لهم جفن، وهم الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا . فلقد قتل ابن سلمان صحفيا يدعى جمال خاشقجى بينما امريكا التي تجلس على المنصة لمحاكمته، لم تترك مترا مربعا في خريطة العالم دون ان تملأه بدم ضحاياها الذين تتبجح دائما بأنها قتلتهم دفاعا عن القيم الأمريكية ..وهي ذاتها أمريكا التي دائما ما تعمل أذن من طين وأذن من عجين حيال جرائم حكام السعودية بحق المنطقة العربية بأسرها .. وابن سلمان لا يشذ كثيرا عن آبائه واجداده، وعمن يتولون مهمة حمايته وحماية عائلته منذ إتفاق كوينسي سنة 1945 .
أغلب الظن، والظن في حالتنا ليس إثما، ان قراءة ما يحدث يقتضي منا موضوعيا توسيع دائرة الرؤيا، والتعمق في المشهد …فالقراءة المتأنية لما آلت إليه الأوضاع بالسعودية بعد وفاة الملك عبدالله وتولي الملك سلمان وبروز إبنه المنفلت الذي داس على كافة القيم المتوارثة للعائلة السعودية، بل وداس على التابو المقدس الذي قامت عليه الدولة السعودية، قد جعل الأضواء الحمراء تملأ الأروقة الرسمية الأمريكية ..فهناك خطر وجودي علي وجود الدولة السعودية ذاتها والتي لا تساوي في نظر امريكا سوى ما أسماه ترامب وهو صادق في ذلك ” البقرة الحلوب ” وامريكا لن تنتظر حتى تضيع منها السعودية ..فخطر وجود محمد بن سلمان محدق .. فتماسك العائلة السعودية قد أصبح من الماضي، والتململ واضح لدي المؤسسة الدينية السعودية، ولدى القطاع العريض المحافظ في الشارع السعودي من جراء الإنفتاح غير الرشيد لولي العهد الذي بات مرجحا أن يصبح ملكا مالم يتم إقصاؤه بصورة او بأخري ..
فلقد كان على إدارة بايدن أن تختار مابين النظر تحت أقدامها كما فعل ترامب، فتنبهر بالمكاسب السريعة، وتغض الطرف عن جرائم ولي العهد المتهور، او تعيد لعائلة سعود تماسكها وتبدد مخاوف زوال السعودية ككيان جيوبولتيكي نشأ برعاية الإستعمار الإنجليزي في ثلاثينات القرن العشرين، ومخاوف زوال حكم العائلة ذاتها فيما لو أستمر هذا الأمير المتهور جالسا على رأس السلطة .
إذن فالتقرير الذي قرأه الكثيرون على أنه ضحل وتافه يقول بشكل لا يحتمل أي لبس ان أي عقوبات صغيرة كالمنع من دخول امريكا، او تجميد حساباته او ما شابه، لا تتناسب مع الاخطار التي يشكلها وجود ابن سلمان ..وأن العقاب الأكبر سيكون في إنتظاره من خلال سلسلة من التغييرات الهادئة لإعادة الأمور لنصابها في البيت السعودي .. فالسعودية هي أكبر غنيمة غنمتها أمريكا بينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، فلدي عودة روزفلت من مؤتمر يالطا عرج على طهران ( التي شهدت وياللمفارقة إجتماع ستالين وروزفلت وتشرشل عام 1943 ليقرروا كيفية مواجهة اليابان وإجتياح اوروبا )، ثم على مصر للقاء ملكها، ثم كان اللقاء التاريخي في 14 فبراير 1945 على ظهر الطراد الامريكي يو أس اس كوينسي بين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود الذي صعد إلى ظهر المدمرة ومعه ثمانية خرفان حية لأنه لايأكل سوي لحم الضان مذبوحة بمعرفة رجاله ..في هذا التاريخ الذي يحتفل فيه العالم بعيد الحب، كان هناك حب من نوع آخر علي ظهر كوينسي ..النفط مقابل الحماية اللامحدودة لآل سعود وكيانهم ..النفط بأسعار تفضيلية لامريكا وضمان تدفقه، الاولوية لشركة كاليفورنيا وتكساس اللذين أسسا ارامكو سنة 1944 .. مدة الأتفاق 60 عاما وقد تم تجديده لمدة مماثلة عام 2005 ..
هذا الإتفاق هو قدس أقداس العلاقة الأمريكية السعودية، فبموجبه تم إرتهان ماضي وحاضر ومستقبل الشعب السعودي من أجل حماية العائلة الحاكمة، لصالح امريكا التي لا يعنيها سوي ضمان تدفق النفط والفوائض النفطية، والعمل علي إزالة العوائق التي تهدد تدفق النفط كإغتيال ملك، او إزاحة ولي عهد، او وقف الأخطار اليمنية على المنشآت النفطية عبر الضغط لوقف الحرب.. فبايدن شديد الوفاء تجاه كوينسي ..وسيعمل على تطبيقه نصا وروحا ..
المصدر: محمد ابو زيد