“حزب الله” في علِّيته: لماذا وصلت معه “لهون”؟
يشبه وضع “حزب الله” اليوم تقريباً وضع النظام السوري في لبنان قبل العام 2005. كان لدى هذا النظام نحو 40 ألف جندي منتشرين في كل لبنان ما عدا الجنوب، وكانت لديه مفارز للمخابرات في كل المناطق تعتقل وتخطف وتهدّد، وكان لديه مقرّ قيادة في عنجر وآخر في بيروت، وكان لديه أيضاً عدد كبير من العملاء ومن الأتباع والمرتهنين والموالين في مواقع السلطة والسياسة والإدارة والجيش وقوى الأمن وأجهزة الأمن، ولكنّه منذ العام 2003 بدأ يشعر أنّ كل هذه القوى مجتمعة لن تستطيع أن تحفظ بقاء سيطرته على لبنان. كان عهد الوصاية قد بدأ ينتهي ولم يستطع النظام السوري بكل هذه القوة أن يمنع عملية التغيير.
اليوم يقف “حزب الله” تقريباً في المكان نفسه. على مدى 15 عاماً اعتقد أنّه ورث عهد الوصاية وبات حارسه البديل ولكنّه يجد نفسه اليوم أمام تحدّي خسارة كل هذه السيطرة. صحيح أنه يملك قوة تدميرية كبيرة وقوة عسكرية كبيرة ولكنّه يجد نفسه في الوقت نفسه أنّ الأرض تتزحزح من تحته، وأنّه لن يكون قادراً على منع عملية التغيير بعدما علت الأصوات المطالبة بهذا التغيير ولم تعد لديه القدرة على إسكاتها.
جراح على مستوى السيطرة
هذا الواقع كان حاضراً في كلمة السيد حسن نصرالله في 18 آذار الحالي في “يوم الجريح”، وقد بدا فيه أنّه يعاني من جراح على مستوى السيطرة على القرار اللبناني وإدارة دفّة القيادة. هناك شعور لدى “الحزب” بأن شيئاً ما يتحرّك ولا يمكنه أن يلتقطه. يعرف أنّ لديه نقاط قوّة كبيرة، ويعرف أيضاً أنّ هذه النقاط قد لا تنفع في حماية دوره الذي أوكله لنفسه. هناك تفاهم مع العهد و”التيار الوطني الحر” وهناك قوى كثيرة تعمل بإشارة منه، ولكن في الوقت نفسه هناك تفلّت على الأرض لا يستطيع السيطرة عليه. وهناك عملية تغيير لا يمكنه منعها بالقوّة.
في كلمته عبّر السيد حسن نصرالله عن مثل هذه الأزمة التي يعانيها. حتى بدا كأنه يفتح حواراً مع المجموعات القليلة العدد التي تقطع الطرق بين صيدا وخلده، وتأخذ مفاتيح الشاحنات وتهرب وتترك الطرق مقفلة و”الجيش يتفرّج” عليها. يتحدّث عن هذا الواقع ويدعو إلى الإلتزام بعدم قطع الطرق ويدعو المتضرّرين من هذه العملية إلى الصبر وضبط النفس وتخزين الغضب. ويقول إنه لا يريد الذهاب إلى حرب أهلية ولكنّه في الوقت نفسه يحذر من أنّه “وصلت معي لهون”. ماذا يعني ذلك؟ هل يستخدم القوة لفتح الطرق؟ لقد وضع نفسه أمام تعهّد من هذا النوع.
في الواقع وصلت مع السيد نصرالله إلى هذه الدرجة من الغضب والتحذير ليس بسبب قطع الطريق في برجا والسعديات والناعمة وخلده فقط، بل بسبب تداعيات الوضع السياسي والأزمة المتفاقمة حكومياً وسياسياً ومالياً وأمنياً. تلك الأزمة التي تكاد تقطع الطريق أمام تحكمه بالقرار اللبناني. وهذه الطريق لا يفصل نصرالله بينها وبين طريق الناعمة لأنّهما معاً في حساباته نتيجة مؤامرة وعمل سفارات تريد أن تقود البلاد إلى حرب أهلية لا يريدها.
أسلحة لا يمكن استخدامها
صحيح أن لدى “الحزب” أسلحة استراتيجية ولكن السيد نصرالله كان مصيباً عندما اعتبر أن الحرب الأهلية لا تحتاج إلى مثل هذه الصواريخ، بل إلى مجرد اسلحة فردية ومتوسطة متوفرة لدى أكثرية الشعب اللبناني. وبذلك تصبح عناصر القوة التي يمتلكها “الحزب” في الصراع مع العدو الإسرائيلي نقطة ضعف في الأزمة الداخلية التي يجد نفسه عاجزاً عن حلها.
في كلمته أعاد نصرالله الأمور إلى نقطة الصفر في السياسة وسلط الضوء على خطورة الوضع الأمني. في تحذيره من الحرب الأهلية وضع هذه الحرب في مخيلة اللبنانيين وكأنّها يمكن أن تحصل. من موقع القوّة التي يملكها بدا السيد نصرالله وكأنّه يبحث عن حلّ. ولكن من أين يمكن أن يأتيه هذا الحلّ؟ من حكومة عاجزة ومنتهية الصلاحية مستقيلة لم تعرف كيف تعمل ولا ماذا تعمل قبل أن تستقيل، فكيف يمكنها أن تعود إلى الحياة والعمل وقد لفظت أنفاسها؟ على رغم أن هذه الحكومة أرادها “الحزب” مع العهد حكومة من لون واحد ومن أكثرية واحدة، ولكنّها انتهت إلى فشل كبير هو فشل لـ”الحزب” والعهد معاً. إذا كان “الحزب” بهذه الحكومة لم يستطع أن يحكم ويخلّص نفسه ويخرج من الأزمة، فكيف يمكنه أن يخرج منها بعد اليوم وقد تضاعف حجم الأزمة وتضاعف ضعف الحكومة والعهد؟
إستنجد السيد نصرالله أيضاً بحاكم المصرف المركزي رياض سلامة معتبراً أنّه يستطيع التدخّل لمنع انهيار العملة الوطنية وحمّله مسؤولية هذا الإنهيار. ولكن لو كان سلامة يملك هذه القدرة هل كان سمح أصلاً بأن يحصل الإنهيار؟ لقد شنّ “الحزب” حرباً على الحاكم لا تزال مستمرة وساعد في فتح المحاكمات وإطلاق الإتهامات ضدّه من داخل المصرف المركزي إلى محاكم سويسرا، ولكن من دون أن يتمكّن من القضاء عليه. وهو أوحى في كلمته أنه كان على تواصل معه من خلال وسطاء، وإن لم يتوانَ عن تحميل رئيس “حركة أمل” ومجلس النواب نبيه بري مسؤولية بقاء الحاكم في موقعه. ينتقد السيد نصرالله دور الجيش الذي “يتفرّج” على الذين يقطعون الطرقات ويطلب تدخّله أكثر. بين “الحزب” والجيش أكثر من محطة سلبية في الأعوام الأخيرة القليلة. ثمة نقزة لدى “الحزب” من دور الجيش ومن دور قائد الجيش خصوصاً في ما يتعلّق بالمساعدات الأميركية التي تصل من دون إخضاعها لرقابته. وقد كانت هناك انتقادات كبيرة لما يحصل مثلًا في قاعدة حامات الجوية حيث تحطّ طائرات أميركية عسكرية وتطير. وإذا كان نصرالله اعتبر أن الجيش لا يمكنه أن يطلق النار على المتظاهرين فإنّه لم يعفه من مسؤولية عدم التدخل لفتح الطرقات، خصوصاً أنّ هناك من بين المقرّبين من “الحزب” من يتّهم الجيش بأنّه يساهم في تغطية من يقطعون الطرقات أو يمون عليهم. وهذا كله يأتي من ضمن اعتقاد “الحزب” بأن سفارات تدير “الثورة”.
ناس بليرة وناس بدولار
للمرة الأولى تقريباً يدخل السيد نصرالله إلى خصوصيات “الحزب” المالية. تحدّث عن الذين يقبضون بالليرة والذين يقبضون بالدولار. هذا الكلام موجّه إلى داخل بيئة “حزب الله” والبيئة الشقيقة لها. بيئة الثنائي الشيعي. من يقبضون بالليرة يغارون اليوم ممن يقبضون بالدولار وهم من كوادر “الحزب”. هذا الواقع المستجد لم يكن موجوداً قبل ارتسام هذا الإنهيار الكبير في سعر الليرة. بدا ربّما للبيئة الشيعية أنّ هناك “ناس بسمنة وناس بزيت”. من هنا يمكن فهم بدء حملة انتقادات لـ”حركة أمل” وللرئيس نبيه بري من خلال تسريب معلومات عن تحركات لا تصبّ في دائرة مصلحة الثنائي، وخصوصاً بعدما بدأت عمليات قطع الطرق في عدد من المناطق الشيعية في الجنوب وبيروت والضاحية والبقاع. بعد كلام نصرالله ماذا سيفعل الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري يوم الإثنين؟ ذهب الحريري إلى بعبدا وهو يعرف وعون يعرف أنه لن يعتذر عن التأليف، وهما يعرفان أيضاً أن عون لن يستقيل. لا عون كان سيستقيل ولا الحريري كان سيعتذر وهما أمام مأزق عدم التأليف. عبّر نصرالله عن عمق المأزق الذي يعيشه مع “حزب الله” في مواجهة الأزمة وأعاد طرح المسألة الحكومية من أساسها، عندما دعا إلى حكومة تكنو- سياسية مخالفاً ما يريده ويدعو إليه الرئيس سعد الحريري. توقّع أن تكون المواجهة كبيرة واعتبر أن حكومة اختصاصيين لا يمكن أن تحمل كرة النار التي ستحرق الحكومة والحريري، ويمكن أن تستقيل تحت ضغط الشارع من جديد. بعد هذا الكلام أيّ كلام يمكن أن يكون الإثنين بين الإثنين عون والحريري؟
موقف الحريري أصعب
لا شك في أن موقف الحريري صار أصعب. لا يمكنه أن يتراجع عن تعهّده بأن تكون حكومة اختصاصيين كما قال ويقول. تراجعه بعد كلام نصرالله يعني أنّه انصاع لرغبته وأنّه لا يمكنه أن يعارض ما يطلبه. نصرالله تحدّث كأنه يمون على الحريري ولكنّ الحريري كان يتصرف على أساس أنه سيد قراره ولا يمكنه أن يتراجع. بدوره الرئيس عون سيبدو أكثر تشدّداً. يريد أن يستثمر مواقف نصرالله من أجل حكومة سياسية وإذا لم يحصل ذلك فمن أجل حمل الحريري على الإعتذار.
السيد نصرالله تحدث عن أزمة الدستور والطريق المسدود أمام تشكيل الحكومة مقترحاً البحث عن مخارج. لم يحدّد ما إذا كان المطلوب تعديلاً دستورياً يتعلّق بتحديد مهلة زمنية لرئيس الجمهورية لإجراء استشارات التكليف، أو تعديل مماثل يتعلق بتحديد مهلة للرئيس المكلف من أجل أن يؤلّف. ولم يحدّد أيضاً إذا كان الهدف من البحث عن تعديل يتعلّق بما يحصل حالياً وبما يطالب به الرئيس عون من خلال إيجاد تفسير دستوري، ولو غير دستوري، يسمح بسحب التكليف من الرئيس الحريري. ولكن من يحذّر من حرب أهلية لا يمكنه أن يدخل في هذه المغامرة غير المحسوبة النتائج.
دعا نصرالله الجميع إلى المشاركة في تحمل المسؤولية ودعا الحريري إلى إشراكهم، ناصحاً بعدم الوقوف على التلّة والتفرّج على الإنهيار. تحدّث بصفة العاجز عن الإتيان بالحل وقال: “كل اللي منقدر عليه عملناه ولا يمكن أن نفرض الحل بقوّة السلاح”. ولكنّه في النتيجة يريد حلّاً.
المخارج التي طرحها غير عملية وغير منطقية ولم تعط أي نتيجة لأنها اعتمدت سابقاً. يرى أن الأزمة تضيّق الخناق على “الحزب” وهو يبحث عن حلّ يساعده فيه الآخرون الذين يتّهمهم بأنّهم يفتعلون الأزمة.
قال: “لدينا خيارات يمكن أن نلجأ إليها” ولكنّه لم يعلن عنها. ولكن ما هي هذه الخيارات؟ قد يكون أحلى هذه الخيارات مرّاً. بين ترك الوضع يذهب إلى الإنهيار وبين المواجهة في الشارع ماذا سيختار “الحزب”؟ ربما يقتضي الأمر أن ينزل “الحزب” من علّيته. يستطيع نصرالله أن يقول ما يريد ولكن هل يمكنه أن يفعل ما يريد؟