إطاحة صوّان تثبّت حصانة الرؤساء والوزراء: كيف ضرب القاضي المعزول التحقيق؟
صدر، أمس، قرار محكمة التمييز الجزائية بنقل ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت من المحقق العدلي القاضي فادي صوّان إلى محقق عدليّ آخر، بسبب «الارتياب المشروع». انقسم الرأي العام حيال القرار، ليتحدث كثيرون عن قرارٍ سياسي أطاح قاضياً شجاعاً، في مقابل آخرين يرون أن أداء القاضي المعزول نفسه سبق أن وجّه ضربة للثقة بنتائج التحقيقات. صوّان صار خارج التحقيق في أكبر انفجار هزّ لبنان ونكب عاصمته، مخلّفاً أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى وعشرات آلاف الوحدات السكنية والمباني المتضررة. أخطاؤه حكمت عليه. لكن السؤال الأهم اليوم: ماذا بعد؟ هل ستستولي السلطة السياسية على التحقيق، بعدما ثبّتت محكمة التمييز حصانة النواب والوزراء والرؤساء، فتتسبّب بقتل الضحايا مرتين، أم أن قاضياً عدلياً سيجد طريقه نحو إحلال الحق والعدالة، مستفيداً من كل سقطات سلفه؟
يقول كثيرون، من سياسيين وقانونيين وإعلاميين ومواطنين إنّ صوّان ــــ الذي أصدرت محكمة التمييز الجزائية أمس قرارا بتنحيته عن متابعة التحقيق في تفجير المرفأ، بعدما قبلت طلب نقل الدعوى المقدّم من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر ــــ أُطيح لكونه تجرّأ على رفع السقف في وجه رموز النظام السياسي عبر استدعائه رئيس حكومة ووزراء سابقين ونوّاب حاليين. لكنّ هذا كلام حقٍّ يُراد به باطل. لم يجرؤ صوّان أبداً على رفع السقف. لم يدَّعِ على رئيسَي الحكومة سعد الحريري وتمّام سلام، ولم يسجن مديري مخابرات سابقين وحاليين أو أيّ مسؤول في قيادة الجيش. ولو أنّه فعل ذلك، لم يكن ليتجرّأ أحد على الوقوف في وجهه. لقد تحاشى صوّان الاقتراب من المؤسسة العسكرية، قبل أن يتبيّن أنّه قبض ما مقداره 13 مليون ليرة كتعويض عن عطل وضرر لحِق بمسكنه جرّاء الانفجار. وهنا قد يُسخِّف البعض السبب. لكن للتذكير، فإنّ المحقق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي الياس عيد نُحِّي عن التحقيق في الجريمة لسبب أتفه من ذلك. تقرر تنحية القاضي عيد يومها عن النظر في ملف الضباط الأربعة بعدما تبيّن أنّه كان يحصل على «بونات» بنزين من الأمن العام، وأن شقيقه طبيب متعاقد مع الأمن العام، فاعتُبر أن ذلك يُشكّل سبباً للارتياب بأدائه. وهنا صوّان، فضلاً عن قبضه تعويضاً، كان قاضي تحقيق عسكري لأكثر من عشر سنوات في المحكمة العسكرية، الخاضعة تاريخياً ــــ بحكم الأمر الواقع لا القانون ــــ لإمرة قيادة الجيش، ما يؤلّف أصلاً شكّاً في حياديته. فضلاً عن تمنّعه لأكثر من ستة أشهر عن استدعاء قائد الجيش السابق أو الحالي، قبل أن يرضخ جرّاء الضغط الإعلامي مستدعياً العماد المتقاعد جان قهوجي. لكنه لم يطلب التحقيق مع قائد الجيش الحالي، العماد جوزف عون، رغم أن الأخير يؤكد لمن يسألونه عن الأمر أنه مستعد للمثول أمام قاضي التحقيق العدلي متى استدعاه.
وإضافة إلى ما سبق، تجاهل صوان دور قضاة كان لهم دور كبير في قضية شحنة نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ يوم 4 آب 2020، سواء لجهة إصدار قرار بإدخال الشحنة إلى المرفأ، أو لناحية الامتناع عن إصدار قرار بالتخلص من الشحنة، أو لجهة إدارة التحقيق في وجود الشحنة لاحقاً. لم يقم صوان بأي خطوة تجاه زملائه. ولكي يستعيد التحقيق صدقيته اليوم، يجب على المحقق العدلي الجديد أن يستدعي القضاة المعنيين بهذا الملف. لم تكن عدالة المحقق العدلي معصوبة العينين كما يُفترض بالعدالة أن تكون، إنما كال بمكيالين. وجّه التحقيقات إلى غير المسار الطبيعي الذي ينبغي أن تسلكه. يرفع من مستوى المسؤولية في مكان، ويخفضه في مكان آخر. يلاحق وزيراً دون آخر، ورئيساً دون سلفه… يدّعي على رئيس في إدارة، ثم يلاحق مرؤوسيه من دون أن تكون لهم أي صلة بالقضية. كان يرضخ لضغوط الرأي العام حيناً، حتى بات الإعلام موجّهاً لتحقيقاته. يأخذ قراراً ثم يتراجع عنه تحت ضغط الإعلام، ما يثير الشك في أصل قانونية قراراته. انقضت ستة أشهر على تولّي صوّان التحقيق، لكنه لم يُقرّب أهالي الشهداء والضحايا والشعب اللبناني من الحقيقة.
محكمة التمييز الجزائية، الغرفة التي يرأسها القاضي جمال الحجار (بعضوية المستشارين إيفون بولحود وفادي العريضي)، قبلت طلب نقل الدعوى المقدّم من النائبين خليل وزعيتر. وهي أوردت في قرارها «اعترافين» من صوان استندت إليهما، مع أمور أخرى، للموافقة على طلب النائبين المدعى عليهما من قبل المحقق العدلي. الأوّل تمثّل بإقرار صوّان أنّ مسكنه في الأشرفية تضرّر من جرّاء الانفجار، وبأنه قبض تعويضاً من الجيش عن تلك الأضرار. وهذا ما جعل المحكمة تنتهي إلى أن ثمة سبباً يوجب نقل الدعوى من عهدة القاضي صوان لعدم جواز أن يتولى المتضرر من جريمة دور التحقيق فيها، وهو من أبسط قواعد المحاكمة العادلة. أمّا الإقرار الثاني، فتمثّل بإبلاغ صوّان المحكمة أنه لن يحترم حصانات النواب والوزراء والرؤساء، ما جعل المحكمة ترى في ذلك إشهاراً من القاضي بأنه سيخالف أحكام القانون والدستور، ما يُسقط أهليته للاستمرار في تولّي التحقيق ويوجب نقل القضية الى مرجع آخر، لأن من أبسط حقوق المدعى عليه أن يتولى التحقيق معه قاضٍ يلتزم بالأحكام القانونية والدستورية لا قاضٍ يعلن صراحةً أنه لن يلتزم بها ويصرّ على مخالفتها. وفي هذا الرأي الذي خلصت إليه محكمة التمييز، مكمن الخطورة على مستقبل التحقيق. فأي محقق عدلي جديد سيعمل تحت هذا السقف، ما يعني أن التحقيق سيبقى محصوراً، في أحسن الأحوال، بمديرين وضباط وإداريين وعمال، من دون أن يمسّ أحداً من المسؤولين السياسيين. فملاحقة هؤلاء، قانوناً ودستوراً، من صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي لم يلاحق يوماً أي مرتكب في السلطة السياسية.
القرار استعرض المبررات التي تقدم بها النائبان زعيتر وخليل، بدءاً من التعمية والمحاباة، مروراً بالاستعراض وتنفيذ الأجندة السياسية والتخبط في المواقف والانتقائية والاستنسابية، وصولاً إلى الشبهة المتولّدة من المخالفة المتعمّدة لنص المادة 40 من الدستور ونص المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة المتعلّقة بالحصانات. واستعرض بعدها ردّ المحقق العدلي، قبل أن يخلص إلى القرار الذي صدر بأكثرية صوتَي القاضي الحجار والقاضية بولحود، فيما خالفهما العضو الثالث في الهيئة، القاضي فادي العريضي.
القرار في الميزان السياسي
من الصعب في لبنان فصل شأن بهذه الخطورة عن السياسة. وسيقال الكثير عن «صفقة ما» أدّت إلى صدور قرار محكمة التمييز. وحجّة أصحاب هذا الرأي تستند إلى وقائع، أبرزها أن رئيس المحكمة، القاضي الحجار، محسوب سياسياً على الرئيس سعد الحريري الذي «انتفض» في وجه قرار صوان الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، معتبراً أنه «مسّ بموقع الرئاسة الثالثة»، مع كل ما يتضمّنه هذا الموقف من إيحاءات مذهبية. كذلك فإن الحريري كان يرى أن قرار توقيف رئيس اللجنة المؤقتة لإدارة مرفأ بيروت، حسن قريطم، استهداف سياسي له.
في المقابل، فإن القاضي المخالف، فادي العريضي، محسوب على النائب وليد جنبلاط، الذي وإن كان سيساهم في حماية النائبين خليل وزعيتر بناءً على تحالفه مع الرئيس نبيه بري، إلا أنه يرى أن أداء القاضي صوان كان يصّب في غير مصلحة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والنائب جبران باسيل.
أما القاضية بولحود، فهي مما لا يمكن تفسير موقفها في السياسة بسهولة، لأنها محسوبة على رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبود، الذي كان طوال الأشهر الماضية «الراعي الرسمي» لصوّان. ووصل الأمر بمقرّبين من عبود إلى حد القول إن وقوفه إلى جانب صوان ودعمه له سيمنحان رئيس مجلس القضاء الأعلى بطاقة الترشّح إلى رئاسة الجمهورية!
تبقى نقطة أخيرة لا بد من لفت النظر إليها، وهي أن التيار الوطني الحر الذي كان متحمساً، جزئياً، لقرارات صوان، وخاصة لجهة ادعائه على زعيتر وخليل والوزير السابق يوسف فنيانوس، إلا أنه كان مرتاباً من توجّه صوان إلى توقيف المدير العام لأمن الدولة، اللواء طوني صليبا، المحسوب على العهد. وكانت خطوة توقيف صليبا ستُعدّ ضربة ثانية للعهد وباسيل، بعد توقيف المدير العام للجمارك بدري ضاهر.
مخالفة القاضي العريضي
في 23 صفحة، استعرض المستشار في محكمة التمييز الجزائية، الغرفة السادسة، فادي العريضي، مبررات مخالفته قرار قبول نقل ملف التحقيق في انفجار المرفأ من المحقق العدلي القاضي فادي صوان. فقال العريضي إنه يوافق هيئة المحكمة الرأي لقبول طلب نقل الدعوى شكلاً، ويخالفها لجهة قبوله أساساً. وعدّد العريضي الأسباب الموجبة لذلك. فرأى أنه بما أنّ البيّنة على المدّعي، يتعيّن عليه أن يُثبت يقيناً أنه قد بدر عن المرجع القضائي المستهدف بطلب نقل الدعوى مواقف حسية أو تصرفات ملموسة توحي بالانحياز الفاضح إلى متقاضٍ على حساب آخر، ما يثير شكاً في حياده وريبة مبررة في نزاهته. وعليه، استعرض المستشار الأسباب التي استند إليها، فرأى أنّ ما أثاره طالبا النقل (النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر) لا يشكّل سبباً للارتياب بالمحقق العدلي بما يتعلق بالتعمية والمحاباة باعتبارهما أنّ المحقق العدلي لم يحرّك دعوى الحق العام بحق قاضيَي الأمور المستعجلة في بيروت، ما يبدو بأنه محاولة للتعمية على تقصير زميليه محاباة لهما ولقضاة آخرين في هيئة القضايا. فاعتبر العريضي أنّ المحقق العدلي غير مختص بملاحقة القضاة جزائياً أو الادعاء عليهم. أما السبب الثاني المتعلق بالاستعراض وتنفيذ أجندة سياسية، فرأى أنّ ما أدلى به طالبا النقل بقي مجرّد أخبار ومزاعم تفتقر إلى أيّ دليل يُثبت صحّتها. أما إشارتهما إلى الشبهة المتولّدة من المخالفة المتعمدة للمواد المتعلقة بالحصانة، فقد ردّ ذلك لعدم قانونيته. وبشأن تضرّر مسكن المحقق العدلي جرّاء الانفجار وقبض زوجته تعويضاً لإصلاح الأضرار، فقد رأى القاضي العريضي أنّ ذلك لا يرقى منفرداً إلى مفهوم وحالة الارتياب.