“حزب الله” في بلاد القياصرة: ما يُرى وما لا يُرى
وصل وفد “حزب الله” إلى مقرّ وزارة الخارجية الروسية بسيّارة فان من دون مرافقة أو استقبال رسمي. تحت زخّات خفيفة من المطر نزل الحاج محمد رعد وتبعه أعضاء الوفد ودلفوا إلى داخل المقرّ حيث التُقطت الصور القليلة التي وزعتها الدبلوماسية الروسية. هذه الصور كانت جزءاً من المشهد الذي يُرى بينما ستبقى هناك أجزاء من المشاهد التي لا تُرى من الأيام الثلاثة التي قيل إنّ الوفد سيمضيها في أمبراطورية القيصر الجديد فلاديمير بوتين.
ليس من غريب الصدف أن تبدأ زيارة وفد “حزب الله” في 15 آذار في الذكرى العاشرة لاندلاع الحروب الصغيرة والكبيرة في سوريا. هذا التزامن قد تكون له خلفيّات تتعلّق بمهمّة الوفد الآتي من لبنان برئاسة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، ومعه مسؤول العلاقات العربية والدولية السيد عمّار الموسوي ومعاونه للشؤون الدولية د. احمد مهنا والمستشار الإعلامي احمد حاج علي.
لماذا الوفد برئاسة الحاج محمد رعد؟ تلك إشارة إلى محاولة إعطاء بعد سياسي للزيارة من خلال طبيعة عمل رعد السياسية، والإيحاء أن سبب الزيارة الرئيسي يتعلّق بمسألة تشكيل الحكومة في لبنان. ذلك أن المسائل العالقة بين “حزب الله” وموسكو قد تكون لها أبعاد غير سياسية تتعلّق بالوضع الأمني والعسكري في سوريا بشكل رئيسي، وهذا ما لا يدخل ربما ضمن صلاحيات الحاج رعد والوفد المرافق إذا اقتصر على الأسماء التي وُزِّعت.
أكثر من ملف
بين “حزب الله” وموسكو أكثر من ملف عالق. زيارة الوفد تأتي بعد لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالرئيس سعد الحريري في أبو ظبي، خلال جولة الوزير الخليجية التي شملت المملكة العربية السعودية وبرز فيها الحديث عن احتمال عودة سوريا إلى الحضن العربي.
قبل ستة أعوام فقط كان قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني يقصد العاصمة الروسية من أجل طلب المساعدة. كانت دمشق مهدّدة بالسقوط بيد الجماعات المعارضة للنظام السوري بما فيها من تنظيمات أصولية وغير أصولية، وكان “حزب الله” مع إيران عاجزين عن الدفاع عن النظام. لم يكن فلاديمير بوتين يحتاج إلى الكثير من محاولات الإقناع فقد كان بدوره ينتظر هذا النداء. اعتباراً من أيلول 2015 سيبدأ التدخّل الروسي بإحداث التحوّلات على الأرض. منذ ذلك التاريخ لم يكن هناك تنسيق مباشر بين “حزب الله” والروس بل كان “الحزب” ينسّق مع جيش النظام السوري الذي ينسّق مع الروس. خلال الأعوام الستة حصلت مناوشات بين الروس و”الحزب” في أكثر من منطقة خصوصاً على الحدود مع لبنان. سكت الروس عن التدخل الإسرائيلي واستهداف مواقع “الحزب” ومواقع المسلحين التابعين لإيران ونفّذوا طلب إسرائيل إبعاد هذه المواقع عن حدود الجولان لمسافة نحو 40 كلم، بينما لم يحاول الروس أيضاً منع “الحزب” من نقل الإسلحة من إيران إلى سوريا ولبنان. تركوا المواجهة مفتوحة فوق الرمال السورية بين الطرفين في الجو وعلى الأرض.
بين الضابط والقيصر
قبل ذلك بكثير، في العام 1985 حصلت مواجهة محدودة بين “الحزب” والروس. في تلك المرحلة كان بوتين مجرد ضابط صغير يخدم في جهاز المخابرات السوفياتية الـ”كي جي بي” قبل أن يحين موعد سقوط الإتحاد السوفياتي بعد خمسة أعوام. هذا السقوط الذي أهّل هذا الضابط ليصبح قيصر روسيا الجديد وإلا لكان بقي مجرّد ضابط متقاعد بأجر زهيد يصطاد السمك في بحيرة متجمّدة. تلك السنة كانت قوات النظام السوري تحاصر مدينة طرابلس وتعمل على إنهاء سيطرة حركة التوحيد الإسلامي عليها. تلك الحركة التي أرّخت لبدء نفوذ وتسليح الحركات الإسلامية الأصولية في لبنان والمنطقة وكانت برئاسة الشيخ سعيد شعبان. يومها تمّ خطف أربعة دبلوماسيين سوفيات في بيروت وتمّ تهديد موسكو بقتلهم إذا لم تضغط على حليفها قائد النظام السوري حافظ الأسد ليوقف الهجوم على الحركة الأصولية. لم يُعرف وقتها مباشرة من يقف وراء عملية الخطف التي تبنّتها منظمة الجهاد الإسلامي، ولكن معلومات لاحقة لتلك الفترة تحدّثت عن أن “حزب الله” هو الذي تولّى عملية الخطف وقتل أحد الرهائن، وأن المخابرات السوفياتية أرسلت وحدة متخصصة إلى لبنان خطفت عدداً من أقارب المتّهمين بالخطف، وقتلت أحدهم وأرسلت جثته إلى “الحزب” وهددت بقتل آخرين إذا لم يتم الإفراج عن المخطوفين. وهذا ما حصل بعد وقت قصير. لم يُعرف وقتها سرّ دفاع “حزب الله” عن حركة التوحيد إلّا بعدما تدخّلت إيران مع النظام السوري للتوصل إلى حلّ أمني في طرابلس، حيث دخل العميد غازي كنعان إلى المدينة بعدما كانت إيران أمّنت انتقال الشيخ سعيد شعبان إلى دمشق وإعادته إلى سوريا. انتهى دور الحركة العسكري وبقي الشيخ سعيد واستمرت العلاقة مع “الحزب”. ولكنّ هذه الحركة التي تمّ ضربها استولدت من كنفها الحركات الأخرى التي تحوّلت إلى عدو يقاتل “الحزب”، وكادت مع أخواتها المتوالدة في الساحة السورية والآتية من أكثر من مكان في العالم أن تهزم “الحزب” والنظام في دمشق لولا تدخّل القيصر الروسي.
سوريا لا لبنان؟
بيان وزراة الخارجية الروسية بعد استقبال الوفد، تحدّث عن أهمية تشكيل “حكومة لبنانية جديدة بقيادة سعد الحريري تكون كفيلة بإخراج لبنان من الأزمة التي يعانيها. وخلال تبادل الآراء حول التسوية في سوريا أكّد الجانب الروسي تمسّكه بحقّ السوريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم، بما يتّفق مع القرار 2254 لمجلس الأمن الدولي”… في اليوم نفسه كانت السفيرة الأميركية في مجلس الأمن الدولي ليندا توماس غرينفيلد في جلسة إحاطة لمجلس الأمن حول سوريا في ذكرى 15 آذار تتحدّث عن الوضع السوري وتقول: “أما في سبيل وضع حدّ دائم لهذه المعاناة، فالولايات المتحدة تظلّ ملتزمة بتحقيق حلّ سياسي للصراع السوري، وفقاً للمعايير المحددة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. إننا ندعم بشدة جهود المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسن الهادفة إلى تعزيز والمضي قدماً نحو تسوية سياسية.” بيدرسون كان ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ويعرف لبنان وسوريا جيداً. وفي المناسبة ذاتها أكد أيضاً أمام مجلس الأمن على ضرورة تفاوض الأطراف السورية على تسوية بدعوة من الأمم المتحدة، لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 وإظهار الإرادة السياسية للقيام بذلك، وأوضح أيضاً أنه مقتنع تماماً بأن الأطراف السورية “لن تتقدم كثيراً إذا لم يتم دعم العملية التي يقودها السوريون بدبلوماسية دولية بناءة بشأن سوريا”.
عن هذه التسوية السياسية تحدث بيان الخارجية الروسية ايضاً. دائماً كانت واشنطن تؤكّد على التوصل إلى حلّ لسوريا عن طريق القرار 2254 بينما كانت روسيا تحاول الإلتفاف عليه من بوابات ومداخل كثيرة ولكن من دون جدوى.
لا احتفالية بالزيارة
لو كان الروس يريدون التحدّث مع “حزب الله” في موضوع الحكومة اللبنانية فقط لكانت أنيطت هذه المهمة بالسفير الجديد في بيروت. لم يتعاطَ “الحزب” باحتفالية ظاهرة مع هذه الزيارة ولم يعتبر أنّها تتويج لانتصار محور الممانعة. ثمّة ترتيبات تُجريها روسيا للوضع السوري قد لا تكون تتّفق مع ما يريده “حزب الله”. هذا الأخير لم يوافق مثلاً على تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل إلى إسرائيل في نيسان 2019 عن طريق موسكو وباحتفالية منظّمة ولم يتمّ أخذ رأيه أساساً. وهذا الأمر ما كان يمكن أن يحصل لولا موافقة النظام وبشار الأسد. ولا تمّ الوقوف على خاطره عندما أعادت موسكو دبابة إسرائيلية كانت حصلت عليها من دمشق، ولا توقّفت عند رفضه البحث عن جثّة الجاسوس إيلي كوهين بعدما أرسلت ساعة يده في نيسان 2020 إلى عائلته.
وهي في ظلّ سياستها المرسومة للنظام الجديد في سوريا لن تتردّد في عدم الوقوف عند ما يقبل به “حزب الله” وطهران أو لا يقبلان. ذلك أن الروس عندما تدخّلوا في سوريا كانوا قد أعدّوا ما سمي “الدستور الروسي لسوريا” الذي يحدّد تقسيم البلاد إلى نظام مقاطعات فدرالي، يكون فيه حكم مركزي صوري وحكم محلي في المقاطعات ومجلس نواب وحكومة مركزية، ولكن مع مجالس مقاطعات وحكومات مقاطعات بحيث لا يمكن أن تقرّر الحكومة المركزية ما لا يمكن أن توافق عليه الحكومة المحلية. وقد سجّل النظام اعتراضات كثيرة على هذا الدستور وهذه الإعتراضات هي التي كانت لا تزال تعيق وتؤخّر اعتماد الحل السياسي، الذي يجب أن يبدأ بمرحلة انتقالية تتركز فيها السلطة بيد حكومة انتقالية تأخذ الكثير من صلاحيات الرئيس، وبذلك لا يعود مهماً كثيراً بقاء الأسد في قصر المهاجرين أم لا. الترتيبات الإنتقالية قد تستدعي بحث مسألة بقاء “حزب الله” في سوريا.
هذا البحث يمكن أن يكون وجود رعد على رأس الوفد لتغطيته لأن القرار فيه يعود للأمين العام السيد حسن نصرالله وللمرجعية في إيران. وهو لا يستوجب بقاء الوفد ثلاثة أيام في موسم الصقيع الروسي والمطر. فالتدخل الروسي يبقى أفعل وأشمل في سوريا ولكن ضمن حدود أيضاً. فعلى رغم وجود القواعد العسكرية الروسية ورعاية تشكيل وحدات من الجيش السوري، والإنتشار في أكثر من منطقة على الأرض والتحكم بمسار العمليات العسكرية، إلا أنّ موسكو تبقى عاجزة عن إنجاز أيّ تقدّم في طريق الحل السياسي وإعادة إعمار سوريا من دون الموافقة الأميركية. ومن دون وجود عسكري في لبنان لا تمتلك موسكو القدرة على التغيير والتأثير ويبقى دورها في حدود نسج العلاقات لا رسم الحلول.