بين التدويل الجزئي والكلي
يخوض «حزب الله» مواجهة إسقاط المؤتمر الدولي الذي دعا البطريرك بشارة الراعي إليه، لأنّ انعقاد هذا المؤتمر، بعرف الحزب، هو بمثابة الضربة القاضية لدوره وسلاحه، ولكن تمكنه من استبعاد التدويل الكلي راهناً لا يعني تجنُّبه للتدويل الجزئي القائم.
يَتكئ «حزب الله» على مقاربة أكثر من دولة غربية وعربية لا تريد ترك لبنان يتخبّط بأزمته المالية خشية من انزلاقه إلى الفوضى والانفجار، وهذا ما يدفعها إلى دعم تأليف حكومة وممارسة ما تستطيعه من مونة او ضغوط تحقيقاً لهذا الهدف، وترتكز مقاربة هذه الدول، وفق ديبلوماسي رفيع، على العناصر الآتية:
أولاً، الفريق الأكثر قدرة على التعايش مع الانفجار هو «حزب الله» لثلاثة أسباب مباشرة: كونه الأكثر تسلحاً ومنظماً، وكونه يحظى بتمويل إيراني مباشر، وكونه يحظى بدعم مباشر وغير محدود من طهران.
ـ ثانياً، الفوضى تُبقي بيئة «حزب الله» محصنة بشكل أو بآخر، فيما البيئات الأخرى قد تتعرّض لانهيارات مخيفة وانقسامات وخلافات ونزاعات ومواجهات، خصوصاً انّ معظمها مخترق من الحزب.
ـ ثالثاً، الانهيار يعني سقوط «اتفاق الطائف» تلقائياً، وعلى رغم من انّ هذا الاتفاق لا يطبّق بشقه السيادي، إلا انه ما زال موجوداً، فيما الفوضى ستسقطه مثلما أسقطت دستور الجمهورية الأولى في 13 نيسان 1975، كما انّ تطبيقه يحتاج إلى تسوية دولية-إقليمية او ميزان قوى خارجي جديد، ولكن الفوضى تعني تعليق العمل بهذا الاتفاق وانتظار اللحظة للاتفاق على نص جديد.
ـ رابعاً، طهران ليست في وارد التخلي عن ورقة «حزب الله» التي تعتبرها من أقدم أوراقها وأهمها، إن لجهة دخولها بواسطتها على خط النزاع مع إسرائيل، أو لناحية إمساكها بالساحة اللبنانية، وما بينهما دور الحزب على المستوى الإقليمي كقوة تدخُّل في أكثر من ساحة، وبالتالي إيران ستقاتل من أجل الحفاظ على كل أوراقها إلى ان يحين أوان التسوية بغية ان تدخل على خطها بقوة معزّزة بكل أوراقها وليس بقسم منها يتساقط على الطريق.
ـ خامساً، المصلحة اللبنانية، بالنسبة إلى هذه الدول دائماً، تستدعي تجنُّب الانهيار والفوضى، والحفاظ على الوضع الحالي في انتظار التطورات الخارجية التي لن يتمكن لبنان من حلّ أزمته من دونها، وهو يحظى اليوم برعاية دولية لن تسمح للفريق الآخر بوضع يده عليه، أو الاستفادة من سوء الأوضاع للذهاب نحو تعديل الدستور.
فالخط الدولي الذي يبدأ من باريس مروراً بالقاهرة وصولاً إلى موسكو وغيرها من عواصم القرار التي لا ترى من حلول مؤقتة للأزمة اللبنانية سوى عن طريق تشكيل حكومة، ولذلك، تضع كل جهدها في هذا الاتجاه، ولكنّ ديبلوماسياً آخر يرى ان مخاوف هذه الدول ليست في محلها، وان الأولوية التي تضعها تخدم مشروع «حزب الله» لا مشروع الدولة اللبنانية، للأسباب الآتية:
أ – يُمسك «حزب الله» بكل مفاصل الدولة والقرار داخلها، وقد تحولت هذه الدولة غطاء لسلاحه وأداة لدوره، وأي دعم للدولة يشكل دعماً للحزب ولو بنحو غير مباشر.
ب – أي مساعدة مالية للبنان لا يستفيد منها الحزب فقط، بل النظام السوري أيضاً، حيث انّ التهريب لم يتوقّف على رغم مأسوية الوضع المالي والاقتصادي.
ج – أقصى ما يريده الحزب اليوم هو الحفاظ على «الستاتيكو» الحالي في انتظار ان يحين أوان التسوية الإقليمية، فيما انهيار هذا «الستاتيكو» سيفقده الورقة اللبنانية ويصبح مكشوفاً من جهة، وينقل اهتمامه وتركيزه إلى داخل بيئته من جهة أخرى، لأنه من غير الصحيح ان هذه البيئة محصنة، بل الأكثر عرضة للاهتزازات بفعل انّ التسلُّح داخلها أو الجانب العشائري وما بينهما مساحات الفقر التي لا تختلف عن المساحات نفسها الموجودة داخل بيئات أخرى، وما يحصل داخل هذه البيئة من حوادث يقدِّم صورة واضحة على هذا المستوى.
د – ما يطبّق منذ العام 1990 لا دخل له في «اتفاق الطائف» الذي طبِّق انتقائياً واستنسابياً بما يخدم محور الممانعة بشقّيه السوري أولاً ومن ثم «حزب الله»، والخشية من سقوطه ليست في محلها، لأنّ اي اتفاق في حاجة الى ظروف داخلية وخارجية، والدستور في حكم المعلّق اليوم. وبالتالي، وفقاً لهذه الظروف إمّا يعاد العمل به على ما هو عليه، أو يصار إلى تعديله بمعزل عن طبيعة الوضعية الداخلية، لأنه في حال كان الحزب مصمماً على تعديله، فإنه سيسعى في كل الحالات إلى ذلك، فيما هو المستفيد من الوضع الحالي والمستمر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.
هـ ـ من بعد وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه من انهيار مالي وتعثُّر كبير للدولة وعزلة خارجية لم يعد من مصلحة اللبنانيين اعتماد الحلول الترقيعية، بل اللحظة أكثر من مواتية من أجل الذهاب إلى حلّ جذري لهذه الأزمة، والوصول إلى هذا الحلّ أصبح ممكناً عن طريق المؤتمر الدولي الذي دعا إليه البطريرك الماروني، ومن الجريمة بمكان تفويت هذه الفرصة على لبنان واللبنانيين.
و – لا حلّ للأزمة اللبنانية اليوم أو في المستقبل سوى عن طريق تحييده ومنع الدول الإقليمية من استخدامه كساحة، الأمر الذي لا يمكن ان يتحقق إلا من خلال مؤتمر دولي يُفضي إلى الضغط على طهران لوقف استخدام لبنان ودعوة «حزب الله» إلى تسليم سلاحه، لأنّ الحزب لن يسلِّم هذا السلاح بقرار ذاتي، بل بقرار إيراني.
وفي ضوء المقاربتين الديبلوماسيتين أعلاه، فإنّ المقاربة الثانية ما زالت مستبعدة بفعل غياب، حتى اللحظة، الدولة المؤثرة والقادرة على حمل اقتراح التدويل والترويج له، فيما الطرح الآخر يحظى بدعم مجموعة دول غربية وعربية، كما يحظى باستماتة «حزب الله» وخلفه طهران في الحفاظ على الوضعية الحالية بعيداً من التدويل، ولا يبدو انّ الإدارة الأميركية في وارد الذهاب إلى مواجهة من هذا القبيل مع طهران، فيما الإدارة السابقة كانت، ربما، تَبنّته من أجل انتزاع ورقة مهمة جدا من إيران وعلى قاعدة أسباب موجبة داخلية (الانهيار) وخارجية (الفاتيكان).
ولكن من الثابت انّ «الستاتيكو» الذي يبحث عنه «حزب الله» ويلقى دعماً دولياً وعربياً سيُبقي لبنان في غرفة انتظار التسوية الخارجية، لأن لا قدرة لهذه الدول أساساً على إعادة تعويم وضع البلد من دون قرار أميركي – سعودي ما زال يتعامل مع الأزمة اللبنانية على قاعدة النأي بالنفس بسبب قراره الممسوك من طهران.
وما بين المؤتمر الدولي المستبعد حالياً، وبين الدعم الدولي لتأليف حكومة تجنِّب لبنان الانهيار الشامل، فإنّ الخيار الثاني يشقّ طريقه نحو الترجمة العملية، ولن يكون تأليف هذه الحكومة بعيداً، لأنّ «حزب الله» في حاجة إليها لشراء الوقت ومنع فك الأزمة اللبنانية عن أزمة المنطقة، ولكن لن يكون لبنان من الآن فصاعداً ورقة حصرية بيد إيران، إنما يخضع لتأثير ونفوذ أكثر من دولة في ظل التدويل الجزئي الخاضع له بسبب الأزمة المالية وانفجار المرفأ، خصوصاً أنّ خروجه من هذه الأزمة او الحد منها بأدوات محلية أصبح مستحيلاً، وهو بأمسّ الحاجة لمساعدة خارجية لن تمنح سوى وفق شروط تبدأ بالإصلاح ولا تنتهي بموقف الدولة من القضايا الخارجية، فهل ستتمكن الحكومة العتيدة من تحقيق الإصلاحات والنأي بلبنان عن أزمات المنطقة؟ وهل ستتمكن الرعاية الدولية من الحد من الدور الإيراني في انتظار التسوية المؤجلة في المنطقة؟