الحدث

المصارف تطرد الرواتب: كلفتها مرتفعة… وأرباحها معدومة

 

علي نور – أساس ميديا

قبل أيام، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صورة عن كتاب وجّهه مصرف IBL إلى إحدى الشركات الاستشاريّة الهندسيّة المعروفة، يُعلمها فيه بنيّته اقتصاص ما يقارب الـ5% من إجماليّ الرواتب المحوّلة إلى حسابات موظفي الشركة، وخصم هذا المبلغ من حسابات الشركة في المصرف كعمولة ثابتة في كل مرّة يتم إرسال طلب تحويل للرواتب.

المصرف أوضح أنّ هذه المراسلة تتعلّق بفرض العمولة على حسابات الشركات، لا حسابات توطين الأفراد نفسها، لكنّ حقيقة الأمر واحدة: ثمة عمولات سيتم اقتطاعها كنسبة من مجموع الرواتب، سواء قررت الشركة تحميل هذه العمولة لموظفيها، أو اختارت أن تتحملها بنفسها.

قرار المصرف سلّط الأضواء على تطوّر خطير تشهده جميع المصارف اللبنانيّة في ما يخص حسابات التوطين الموجودة لديها، وإن بدرجات متفاوتة. بعض المصارف اختار رفع العمولات الشهريّة بشكل قاسٍ على جميع حسابات توطين الراتب من دون تمييز وتحت مسمّيات مختلفة، فيما اختار البعض الآخر فرضها على حسابات الشركات التي تقوم بتحويل الراتب، تاركًا الخيار للشركة لجهة إمكان تحميل الموظفين هذه العمولة. أما المطلوب فواحد: إما دفع أصحاب حسابات توطين الراتب إلى إقفالها تدريجيًّا، أو الاستمرار بتحميلهم عمولات أصبحت أقرب إلى خوّة من ناحية نسبتها من إجماليّ الراتب. وفي الحالتين، بات من الواضح أنّ المصارف لم يعد لديها مصلحة في الإبقاء على عدد كبير من حسابات توطين الرواتب، وفق الشروط السابقة التي كانت تفرض عمولات وشروطًا أفضل نسبيًّا.

تشرح مصادر مصرفيّة لـ”أساس” خلفيّة هذه القرارات من ناحية التحولات التي طرأت على طبيعة العمل المصرفيّ اليوم. فقبل الأزمة، تسابقت المصارف التجاريّة لاستقطاب حسابات الشركات التجاريّة وموظّفيها، من خلال عروض جذّابة جدًّا لتواطين الرواتب، سواء من ناحية حجم عمولات الحساب الجاري، أو فوائد القروض والبطاقات وعمولات توطين الفواتير. بالنسبة إلى المصارف، كانت حسابات التوطين مغرية للغاية، إذ كانت هذه الحسابات تفتح الباب أمام إمكان منح أصحاب هذه الحسابات أنواعًا متعددة من القروض السكنيّة والشخصيّة، بالإضافة إلى البطاقات الائتمانيّة وقروض السيارات. وهذا النوع من المنتجات المصرفيّة كان يُعدّ مصدر أرباح مميّزًا للمصارف، وتحديدًا بسبب ارتفاع ربحيّة هذه القروض مقارنةً بالقروض التجاريّة الممنوحة للشركات والمشاريع التجاريّة. كما اعتادت المصارف على تسويق منتجات مصرفيّة أخرى لأصحاب هذه الحسابات، من قبيل برامج الادّخار على المدى الطويل، أو برامج التأمين على الحياة وغيرها.

بعد الأزمة باتت المصارف محمّلة بعدد ضخم من حسابات توطين الراتب، لكنّها لم تعد قادرة على استثمار هذه الحسابات من خلال منحها القروض المصرفيّة، بعد أن توقفت عن منح القروض بمختلف أنواعها. كما بات من الطبيعي أن يبتعد أصحاب هذه الحسابات عن الاشتراك بالمنتجات المصرفيّة الأخرى، كبرامج الادّخار طويل الأمد وفق دفعات شهريّة ثابتة، بالنظر إلى انعدام الثقة بالنظام المصرفي. ولهذه الأسباب، لم تعد حسابات التوطين تحمل بالنسبة إلى المصارف أيّ ربحيّة تُذكر من ناحية المنتجات المصرفيّة.

وفي مقابل غياب ربحيّة هذه الحسابات، بدأت إجراءات مصرف لبنان الأخيرة تزيد من كلفة كل حساب إضافي موجود لدى المصارف. فمصرف لبنان وضع سقوفًا لحجم السيولة التي يُسمح بتسليمها إلى المصارف دوريًّا، فيما يتم سحب أيّ مبلغ يفوق هذه السقوف من شهادات الإيداع التي تملكها المصارف لدى مصرف لبنان، في مقابل شطب جزء كبير من الفوائد التي كان يجب أن تتقاضاها المصارف مقابل شهادات الإيداع هذه.

عمليًّا، أراد مصرف لبنان من هذه الإجراءات الحدّ قدر الإمكان من السحوبات النقديّة بالليرة، وهو ما دفع كل مصرف تجاري إلى تشديد سقوف السحب النقدي على كل حساب موجود لديه بالعملة المحليّة.

ولهذا السبب، أصبح كل حساب مصرفي هو عبارة عن كلفة إضافيّة على المصارف، من ناحية سقف السحب الممنوح له. أما حسابات توطين الرواتب، فباتت كلفة مضاعَفة، كون أصحاب هذه الحسابات غالبًا ما يستعملون حساباتهم لتلقّي التحويلات وسحبها بشكل سريع خلال الشهر. ومن هنا يمكن فهم رغبة المصارف بالضغط على أصحاب حسابات التوطين لإقفال حساباتهم، أو على الأقل الإبقاء عليها مقابل تحمّل نسبة مرتفعة من العمولات لتعويض كلفتها.

بالإضافة إلى كل هذه الأسباب، تقف المصارف اللبنانية اليوم أمام استحقاقات عديدة، وفي طليعتها تكوين مؤونات وفقًا لتعميمات مصرف لبنان، مقابل توظيفاتها في سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان. هذه المؤونات ينبغي أن يتمّ اقتطاعها من حسابات الربح والخسارة الخاصّة بالمصارف اللبنانيّة، وهو ما سيضغط طوال الفترة المقبلة على حسابات المصارف اللبنانيّة وحجم الخسائر التي تتحمّلها. ولهذا السبب، تجد المصارف نفسها مندفعةً نحو زيادة مختلف أشكال العمولات التي تفرضها على حسابات عملائها، بما فيها حسابات التوطين، بهدف تعويض هذا النوع من الخسائر. مع العلم أنّ المصارف لا تجد أيّ خسارة محتملة في إلقاء المزيد من الأعباء على عملائها، وتحديدًا بسبب عدم رغبتها في استقطاب أيّ عملاء جدد خلال المرحلة المقبلة، ما يعني عدم وجود اعتبارات تفرض الحفاظ على رضا العملاء.

في الخلاصة، ستكون النتيجة البديهيّة لكل هذه التطورات، إلقاء المزيد من اللبنانيين خارج النظام المالي بعد نفورهم من المصارف وعمولاتها، وتحديدًا بعد انتقال عدد كبير من الشركات، إلى دفع الرواتب نقدًا بدل دفعها من خلال النظام المصرفي. ومع توسّع هذه الظاهرة، على حساب العمل من داخل النظام المصرفي، تتكرّس تدريجيًّا فكرة “اقتصاد النقد الورقي”، وهو ما يعني أنّ اللبنانيين يستمرون بالسير في تبادلاتهم الماليّة عكس مسار التاريخ وتطوره. أما الحل لكل هذه المشاكل، فمستحيل قبل عودة الانتظام التامّ للقطاع المالي، خصوصًا أنّ مصدر المشكلة الأساسي لا ينحصر بمسألة العمولات وحدها، بل بمسألة تعثّر القطاع المالي ككل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى