الفوضى الشاملة
الأخبار- ابراهيم الأمين
محزن حال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب. محزن أن يهدّد الناس بالاعتكاف، بينما حكومته معطّلة تماماً اليوم. وهو شخصياً لا يقوم إلا ببعض الأمور الإدارية العادية. بينما لا تحصل اجتماعات ولا متابعات ولا تنسيق جدي ولا ما يحزنون. وفوق ذلك، يلوّح دياب بالاعتكاف ظنّاً منه أنّ في ذلك ما يحثّ اللاعبين الكبار على التقدم خطوات إلى الأمام نحو مشروع تسوية ــــ هدنة سياسية تساعد على وقف النزف.
محزن أكثر، حال «أبناء الثورة» الذين باتوا يتامى بأسرع ممّا عرفه التاريخ. من بقي منهم هم الذين كانوا يعتقدون أصلاً بأن البلاد سهلة الإدارة وبأن المعطيات والوقائع قابلة للتبدّل كأننا أمام برنامج تعديل للصور. والمحزن في هؤلاء أن فشلهم في تحقيق مجدهم، دفعهم الى سلوك العاجز، فصاروا أسرى شعار التغيير الشامل. والحلول عندهم اليوم، تراوح بين الدعوة الى وصاية خارجية يلعبون فيها دور البطل، وبين انقلاب يقوده الجيش باتجاه حكومة طوارئ تجمع بين العسكريين ومدنيي المنظمات غير الحكومية.
محزن أيضاً، حال الطبقة السياسية التي لم تملّ من المحاولة. تريد أن تستمر في العمل حتى ولو أعلنت وفاتها. وعجزها يشبه وجوه أقطابها، من الذين لا يعرفون التقاعد أو الخروج الآمن. يذكّرون الناس دوماً بأنهم لا يغادرون إلا بالقوة. والمحزن معهم استعدادهم لتكرار كل أفعالهم السابقة على توقف الرصاص، والعودة الى سياسات الإدارات الذاتية التي تحتمل التنسيق بين زعماء عصابات. مثل الذي فعلوه منذ عام 1983 حتى عام 1990، ثم اتخذوا شكلاً جديداً له حتى اليوم. ومشكلة هؤلاء أنهم فعلاً لا يخرجون من دون أن يأتي من يقتلعهم.
ومحزن أكثر من الطبقة السياسية، أركان عملياتهم المالية والاقتصادية، الذين بنوا مجدهم خلال 25 سنة على استثمار المال العام والخاص، وعلى بناء نموذج ربحي لا يحترم القوانين ولا حتى «الأعراف» المتّبعة عالمياً. ثبّتوا نظام استهلاك قائماً على مبدأ الاستدانة، حتى أنهك الناس بالقروض من جهة، ثم بالعجز عن مواصلة النموذج عندما توقفت سبل الاستدانة. وهذه الطبقة، تحتل كل مواقع النفوذ الموازية للسلطة السياسية، في شركات مالية وتجارية واقتصادية وسياحية وخدماتية، وتنشط في كل أعمال السمسرة الموازية، التي تستغل النفوذ السياسي لأجل فرض مشاريع وهمية تنهب مال الدولة، وتنهك القطاع العام بأثقال جعلته كهلاً عاجزاً عن الحراك.
إزاء كل ذلك، هل بيننا من يستغرب كيف أن كل صاحب مصلحة من خارج لبنان، يجد ضالّته هنا؟ النظام الاستعماري العالمي بقيادة أميركا وأوروبا، لا يجد أصلاً غضاضة في التدخل. فكيف وهو يرى هؤلاء يترجّونه أن يفعل ذلك؟ هل شعرت أميركا وفرنسا وبريطانيا يوماً بأن اللبنانيين لا يرغبون في تدخّلهم؟ لا، لم يحصل ذلك، ولا يبدو أننا أمام متغيّر يعفينا من مهازل الإعلام الدعائي للأميركيين في لبنان (كنموذج السفيرة المؤدلجة دوروثي شيا التي لا نعرف من أقنعها بهذه الأفلام الدعائية التي تبث أنها مدفوعة الأجر على شاشات لبنان… هل يصدق الأميركيون أنهم يكسبون جمهوراً، أم أن جلّ ما في الأمر هو غسيل أموال تموّل بها محطات الثورة المجيدة؟).
وسط هذا المناخ الموبوء، ليس من حق أحد ادّعاء المعرفة الكاملة بمجريات الأمور في بلادنا أو من حولنا. كل ما نرجوه اليوم، هو بعض الهدوء الذي يمنع الناس من الانجرار صوب نمط جديد من الفوضى المتنقلة، التي لن يكون بمقدور أيّ قوّة سياسية أو عسكرية ضبطها على الإطلاق، بل تحتاج الى توافقات أوسع وأكثر عمقاً. وربما يضطرّ اللبنانيون إلى أن يشهدوا جولات جديدة من النزاعات قبل أن يستفيق من بينهم من يقدر على أخذ البلاد نحو تسوية أكثر صلابة، تقوم على بناء نظام جديد يقطع كل صلة بالماضي.
اليوم، يعود الجميع الى الشارع. الكل غاضب، والكل يشعر بالضغط. الفقراء من الناس الذين لا يقدرون على الصمت أكثر، ليسوا في موقع قيادة حراك نحو حل أفضل. سيتحوّلون الى وقود لمعارك تقودها القوى نفسها والطبقة النافذة نفسها، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وسيتعارك الفقراء في ما بينهم دفاعاً عن حقوق طائفة أو أقلية أو زعيم أو منطقة. وسيترافق ذلك مع شلل أكبر في إدارات الدولة كافة، ويصعب معها ضبط العلاقات اليومية بين الفرد والدولة ــــ المجتمع، وسنجد أركان المنظمات غير الحكومية يتربّعون على مواقع النفوذ ويحتلّون المنابر وهم يدعون إلى تغيير لن ينتج أكثر من إدخالهم في منظومة الحكم لا أكثر، أو تشريع أعمالهم خارج أي رقابة سياسية أو دستورية أو مالية…
ها هو لبنان، يقترب من اختبار الفوضى الشاملة. لكن، نصيحة لمن انتفخت رؤوسهم بألّا يستعجلوا الذهاب نحو خيارات لن تعيش لأيام، في بلد يحكمه الانقسام الشديد. لا يوجد في لبنان، على الإطلاق، أي مؤسسة أو جهة أو قوة تحظى بإجماع يمنحها حق التفكير بأنها قادرة على إدارة البلاد والعباد بغير ما تقول الوقائع الصلبة!