«تمتين ثقة المودع بالقطاع المصرفي» و«إعادة تفعيل النشاطات والخدمات المعتادة للمصارف»، هما العباراتان اللتان تكرّر استخدامهما من قِبَل مصرف لبنان في الآونة الأخيرة. والحديث يتركّز حول التعميمين 154 (إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان، وأبرز ما فيه إعادة تكوين الحساب الخارجي للمصارف لدى بنوك المراسلة بما لا يقلّ عن 3% من مجمع الودائع بالدولار) و44 (الإطار التنظيمي لكفاية رساميل المصارف، أي زيادة الـ20%). اللغة المُستخدمة في التعاميم توحي بأنّ هدفها الأوحد إعادة تفعيل القطاع المصرفي، ولكنّ المفارقة أن تنتهي إلى غير الغاية التي وُجدت لأجلها، أكان عبر إدخال تعديلات جوهرية عليها تُفرغها من مضمونها، أو استخدام المصارف لـ«أدوات قذرة» في لعبتها، وأهمّها المُضاربة في السوق السوداء و«شفط» الدولارات، إذ ساهمت في زيادة سعر الصرف ليُلامس الـ10 آلاف ليرة لكلّ دولار أمس.
تعميم جديد يعتزم مصرف لبنان إصداره مطلع الأسبوع المقبل، و«شعاره» أيضاً «إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي»، وتفعيل الاقتصاد المحلّي. كيف؟ سيُفرض على أيّ مصرف يُريد استقبال وديعة من الدولارات الطازجة، أن يُكوّن مقابلها احتياطياً لدى مصرف المراسلة (في الخارج) بنسبة 100% من قيمة الوديعة (ما يعني احتمال تحويل كامل المبلغ بالدولار إلى مصرف المراسلة). مثلاً، في حال قَصد شخصٌ مصرفاً حاملاً معه 100 ألف دولار «حقيقي» نقداً، لفتح حساب، فسيكون المصرف أمام خيارين: أولاً، تحويل الـ100 ألف دولار كاملةً ومُباشرةً إلى حسابه لدى مصرف المراسلة. أما ثانياً، فهو فتح حساب محلّي للزبون لإيداع الـ100 ألف دولار، ولكن في مقابلها على المصرف أن يودع 100 ألف دولار لدى مصرف المراسلة في الخارج.
القرار اتُّخذ في اجتماع المجلس المركزي يوم الأربعاء الماضي، على أن يصدر التعميم رسمياً أول الأسبوع المقبل. يبرر سلامة هذه الخطوة بأنّها «الحلّ الوحيد لإعادة ثقة الناس بالقطاع المصرفي». فالحاكم يعتبر أنّ توفير الضمانة للناس بإمكانية حصولهم على الدولارات متى طلبوها، «سيُشجّعهم على إيداع الدولارات التي يُخزّنونها في المنازل لدى المصارف». ولكن سلامة لا يُريد فقط «استمالة» المودعين، فهو يُخاطب من خلال التعميم الجديد، مصارف المراسلة. الأخيرة هي «وكيل» المصارف اللبنانية في الخارج، عبر تقديمها خدمات تحويل الأموال وتمويل التجارة الخارجية، فتكون مصارف المراسَلة الضامن لتسديد مبلغ إلى أحد المُصدّرين، بالاتفاق مع المصارف اللبنانية التي تكون الضامن لتسديد المبلغ من قبل المستورد. أزمة القطاع المصرفي والأوضاع المالية في لبنان، أثّرت سلباً على العلاقة مع المصارف المراسلة، التي لم تعد تقبل تحويلات مالية من لبنان، أو فتح اعتمادات مُستندية (Letter of Credit) للتجارة. من خلال إعادة ضخّ الدولارات في حسابات المصارف اللبنانية في الخارج (الـ3%)، واشتراط تأمين الودائع «الفريش» قبل قبولها في النظام المصرفي اللبناني، يُوجّه سلامة ما يسمّيه مقرّبون منه «رسالة إيجابية» إلى مصارف المراسلة بوجود دولارات كافية لتغطية التحويلات والعمليات التجارية.

ولكن هل فعلاً سيُعيد هذا التعميم، الذي لا يؤدّي إلى إعادة هيكلة جذرية، «بناء الثقة» بقطاع مصرفي مُنهار؟ المُقربون من سلامة، وقلّة من المصرفيين، يرون أنّ هذه الخطوة هي «السلاح الوحيد» في الوقت الحالي. يشرحون بأنّ سيولة الـ«3%» التي طُلب من المصارف ضخّها في الخارج (وهي مُقدّرة بنحو 3.4 مليارات دولار للمصارف مُجتمعةً)، ستُشكّل القاعدة للتعميم الجديد، لأنّ الأموال التي جُمعت من السوق وأُرسلت إلى الخارج، ستُستخدم لتغطية حسابات الودائع بالدولار الأميركي. أمّا في حال «جذب» المصارف لودائع بما يفوق قيمة حسابات الـ3%، فـ«عندها سيكون المطلوب من المصارف إمّا تحويل الوديعة الجديدة إلى مصرف المراسلة، أو تكوين احتياطي مُقابلها». ويصف المُقربون من سلامة الخطوة بأنّها ترجمة لـ«الاقتصاد الجديد»، الذي يُشرّع لمرحلة «ما بعد الفريش، والأهمّ أنّه يمنع المصارف من التصرّف بها». أما إذا اختارت الأخيرة إبقاء النقود في فروعها داخل لبنان، «فستضطر إما لشراء الدولارات من السوق لتكوين احتياطي مقابل الوديعة في الخارج، وبالتالي إضافة المزيد من الخسائر إلى موازناتها، أو مدّ يدها إلى أموال أصحابها وكبار المساهمين فيها لتأمين الضمانة»، وهو ما لن تفعله أبداً. ولكن قانوناً، لا توجد موانع على تحويل الدولارات «الطازجة» إلى الخارج، فما الحاجة إلى تعميم يصبّ في الغاية نفسها؟ تُجيب المصادر بأنّ المصارف حالياً «تتسلبط» على «زبون الفريش، كأن تشترط مثلاً تجميد نسبة من وديعة الدولارات الأميركية، مقابل تحويل الباقي». كما أنّ هذه «الجيبة» الصغيرة التي تُخلق من الدولارات الطازجة، «ستُستخدم لتدوير النقد بالدولار وتوظيفه في تمويل عمليات الاستيراد والتصدير».

غالبية المصارف مُنزعجة من التعميم الجديد لأنّه «يحرمها» الاستفادة المُباشرة من توظيفات الدولارات الطازجة، كشراء السندات أو الإقراض أو توظيفها لدى مصرف لبنان أو حتى تحويلها إلى الخارج. وتعتبره يأتي في سياق «الحرب الباردة» وعمليات الشدّ والرخو بينها وبين مصرف لبنان. ولكنّ للتعميم «ناقدين» من خارج القطاع المصرفي، هم خبراء ماليون يعتبرون أنّه «لزوم ما لا يلزم». فالهدف الأول هو إعادة إيداع الدولارات في القطاع المصرفي. في السابق، «كانت الفوائد المرتفعة هي الدافع أمام الناس. ولكن إذا كان مفروضاً على المصارف إيداع الدولارات لدى المصارف المراسلة، فهذا يعني أنّها ستحصل مقابلها على فائدة لن تتخطى الـ1%، وستكون مضطرة بدورها إلى خفض نسبة الفائدة التي تدفعها للمودع إلى أقل من 1%. فكم سينجح ذلك في تشجيع المودعين؟». النقطة الثانية اللافتة في التعميم، أنّه في وقت يُبحث عن طريقة لضخّ الدولارات داخل لبنان واستقطاب الودائع إلى نظامه المصرفي، يفرض «المركزي» إلزامية إخراجها بُحجّة «التأمين» عليها، «فكيف سيؤدّي ذلك إلى إعادة تشغيل الاقتصاد وتفعيل عمل المصارف؟». على العكس من عنوانه المُعلن، تعميم مصرف لبنان يُعطّل عمل المصارف، لا يُفعّلها، ويُحوّلها إلى وسيط لا أكثر بين المودع ومصرف المراسلة.


«المركزيّ» لن يصفّي أيّ مصرف متعثّر!
أصدر مصرف لبنان بياناً أكّد فيه «وجوب تقيّد المصارف بالمُهل المنصوص عليها في تعاميمه لزيادة رأس المال وتأمين السيولة الخارجية من دون أي تعديل». المُهلة تنتهي في 28 شباط، ومن بعدها سيتوجّب على المصارف «إرسال كلّ بياناتها إلى لجنة الرقابة على المصارف، التي تقوم بدورها بالتدقيق فيها وإرسال التقارير المُتعلّقة بها إلى مصرف لبنان». وأضاف البيان بأنّ مقاربة مصرف لبنان «ستكون هادفة إلى اتّخاذ الإجراءات كافّة الآيلة إلى معالجة وضع المصارف، وصولاً إلى تعزيز استقرار الوضع المصرفي وضمانة أموال وحقوق المودعين». وفي هذا الإطار، «سيتمّ التنسيق في ما بين مصرف لبنان ولجنة الرقابة وهيئة التحقيق الخاصة وهيئة الأسواق المالية والهيئة المصرفية العليا، بإشراف حاكم مصرف لبنان بغية التثبّت من تطبيق التعميم 154 (إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف). مصادر مُطلعة تُفيد بأنّ الاجتماعات المفتوحة بدءاً من الأسبوع المقبل ستكون بحضور كلّ الجهات والهيئات الرقابية «للتدقيق في جميع الأدوات التي استخدمتها المصارف لزيادة رساميلها، وبثّ جوّ أنّه ستتمّ مقاضاة المخالفين. وعدم تمديد مصرف لبنان للمُهل، لا يعني عدم دراسة وضع كلّ مصرف واتخاذ قرارات فردية. مثلاً المصارف التي باعت وحدات خارجية ستكون بحاجة إلى أشهر قبل انتهاء معاملات انتقال الملكية وحصولها على المبالغ، لضخّها في الخارج أو في رأسمالها، لذلك قد تحصل على استثناء. أو المصرف الذي ما زال بحاجة إلى مبلغ قليل لتأمين كامل سيولته الخارجية، فسيُبحث بوضعه». بحسب ما تؤكد المصادر، مصرف لبنان «لن يُصفّي أو يدمج أي مصرف، الاتجاه العام هو لوضع اليد على المصرف المُتعثّر (أو جزء منه) عن طريق الاكتتاب بسندات دائمة، أو أسهم، وتغيير الإدارة داخله».