متى “يبقّ” الرئيس عبّود بحصة القضاء؟
ملاك عقيل – أساس ميديا
مرّ عامٌ تقريبًا على إقرار التشكيلات القضائية في 5 آذار 2020. أشهرٌ من المنازلة الصامتة بين مجلس القضاء الأعلى ورئاسة الجمهورية، تخلّلها مشهد سوريالي: أصواتٌ في القصر الجمهوري والدائرة القريبة، تنادي بفتح الملفّات ومكافحة الفساد وتسريع المحاكمات وملاحقة المرتكبين، فيما مشروع التشكيلات القضائية الذي أقرّه مجلس القضاء الأعلى بالإجماع، وأراده رأس حربة في بدء عملية “شطف الدرج من فوق”، يغطّ في نومٍ عميق في أدراج رئيس الجمهورية.
التصادم العلني بين توجّهات مجلس القضاء الأعلى في اختيار فريق القضاة الأنسب لمرحلة ما بعد 17 تشرين، و”دفتر شروط” ميشال عون وسليم جريصاتي، قاد إلى تجميد التشكيلات… والأدقّ نسفها.
النتيجة البديهية لتجاوز تشكيلات أطاحت برأي أعلى سلطة قضائية، ما تشهده أروقة القضاء اليوم من ممارسات لم تؤدِّ إلى رمي مرتكب واحد من أصحاب “الأوزان الثقيلة” في السجن. حدث هذا الأمر في ملفّات كثيرة: الكهرباء، والبواخر وعمولاتها، والأملاك البحرية، والتلاعب بالدولار، والتحويلات المالية إلى الخارج، والدعاوى ضدّ المصارف والصيارفة، و”ميليشيات” التجار وتلاعبها بالأسعار والاحتكار، والأغذية الفاسدة، ومئات الملفات التي تفوح منها روائح فساد.
أما الأزمة السياسية والمالية الحادة، فـ”كمّلت على الباقي”: قصور العدل اليوم تعاني شحًّا في الأوراق والحبر ونقص المياه… والسبب: “لا مال في موازنة وزارة العدل”.
كيف يُطلب من قصور العدل أن تُحاسِب الرؤوس الكبيرة وهي محرومة من الأساسيات؟ وكيف لها أن تقيم العدالة بـ”عدّة شغل” مشكوك فيها، ويُحاسَب مجلس القضاء الأعلى على أداء بعض قضاتها و”تهوّرهم”، وهمّ ممّن “طيّرتهم” التشكيلات التي لم يوقّع رئيس الجمهورية مرسومها؟
مجلس القضاء الأعلى الذي رفض رئيس الجمهورية استقبال رئيسه القاضي سهيل عبود على مدى أشهر أزمة التشكيلات، قرّر في كانون الأوّل الفائت استضافة المجلس في القصر الجمهوري طالبًا من أعضائه “تفعيل العمل القضائي وممارسة دوره في مكافحة الفساد”، مع تركيز عون على “عدم جواز أن تبقى بعض الاتّهامات التي توجّه إلى المسؤولين من دون متابعة”. وفي تلك الجلسة طالب عون أيضًا أعضاء المجلس برفع تشكيلات جديدة تضمّ القضاة من المتخرّجين الجدد.
لكنّ مجلس القضاء الأعلى ينتظر تشكيل الحكومة لبتّ التشكيلات التي “لا رجوع عنها”، بتأكيد مصادر قضائية مطّلعة.
لا شكّ أنّ المجلس سيصطدم مجددًا بموقف الرئيس عون، لكنه يصرّ على أنّه اختار قضاة أكْفاء في مواقع أساسية ومهمّة، فيما مبرّر فريق عون لرفض التشكيلات، كان “غياب وحدة المعايير في اختيار القضاة، وعدم حصول نفضة حقيقية على مستوى النيابات العامة وقضاة التحقيق”.
ووفق المعطيات، فإنّ التشكيلات ستلحق بها تعديلات حتميّة مرتبطة بوفاة قاضيين، واستقالة عدد منهم وإحالة آخرين إلى التقاعد، إضافة إلى تعيين 40 قاضيًا تخرّجوا في كانون الأوّل الفائت (أزمة كورونا أخّرت تخريجهم في تموز الماضي). وهؤلاء سيعاد امتحان قدراتهم أمام مجلس القضاء الأعلى، وإجراء المزيد من التدقيق في ملفاتهم، حرصًا على اختيار الأفضل في سياق تنقية الذات وتحصين السلك بالكفاءات. وهي مبادرة إصلاحية من جانب المجلس لا تفرضها القوانين. كما سيأخذ بالاعتبار، وفق مصادر قضائية، أداء بعض القضاة طوال العام المنصرم سلبًا أو إيجابًا، في سياق تنقيح التشكيلات.
والقضاء الذي بات في مرمى الاستهداف المباشر، لعجزه حتّى اللحظة عن إعلان ثورة في أروقته عبر كسر محظور الحصانات والمضيّ بالملفّات إلى النهاية ومحاسبة المرتكبين ممّن “فظّعوا” في هدر المال العام وسرقة اللبنانيين “على عينك يا تاجر”، لم يستطع تقديم “النموذج” من داخل بيته.
هكذا لم يسجّل حصول محاسبة حقيقية لقضاة وُصِموا بفسادهم، وتقارير الأجهزة الأمنية وثّقت ارتكاباتهم كما التفتيش القضائي، فكانت العقوبات المسلكية وقبول استقالتهم من السلك (والمحاكمات جارية بحقهم) مع قبض كامل التعويضات، هو الحلّ الوسط الفاصل عن خيار التحقيق العدلي والسجن والحرمان من التعويض… “ويا دار ما دخلك شرّ”.
ولعلّ المثال الأبرز على حصانات القضاة، هو عدم استدعاء المحقّق العدلي السابق فادي صوّان لأيّ قاضٍ لسؤاله عن دوره في تفجير المرفأ. ولا يُعرف حتّى الآن ما إذا كان القاضي الجديد طارق بيطار “سيفعلها”.
ورغم إثبات تحقيقات التفتيش القضائي جرم الرشوة والفساد على عددٍ من القضاة ممّن قدّموا استقالاتهم من السلك، تجزم مصادر قضائية بأنّ “الاستقالة توقف المحاكمة المسلكية، لكنها لا توقف الملاحقة الجزائية إذا كانت ثابتة. وبالتالي فإنّ بعض القضاة خارج السلك قد يجدون أنفسهم مجددًا أمام التحقيق”، مشيرة إلى أنّ “التفتيش القضائي يعتمد خطة أيضًا لتفعيل دوره”.
وتشير المصادر إلى أنّه “على الرغم من عدم صدور التشكيلات القضائية، ورغم الأزمة السياسية والمالية، فقد اعتمد مجلس القضاء الأعلى سياسة تنقية الذات عبر تفعيل المجلس التأديبي،. فقد بات هناك ثمانية قضاة خارج السلك، والملاحقة بحقّ بعضهم لا تزال قائمة، وقد تكون جزائية في حال إثبات الجرم الجزائي، فيما لم يكن هناك أدلّة دامغة على آخرين، وفضّل هؤلاء تقديم استقالاتهم بعدما شعروا بجدّية الملاحقات وآلية المحاسبة”.
وتنطلق المصادر من واقع الظروف الاستثنائية التي رافقت تعيين القاضي عبود رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى في أيلول 2019، وتخلّلها رفض رئيس الجمهورية للتشكيلات لتؤكّد أنّ “تدحرج كرة الأزمة غير المسبوقة في تاريخ لبنان وانتشار فيروس كورونا، كان له تأثيراته الحتميّة على الجسم القضائي”.
ومع ذلك، تضيف المصادر، أنّ “تعامَل مجلس القضاء الأعلى كان واقعيًّا ومسؤولًا مع الموقف غير المبرّر لرئيس الجمهورية برفض التشكيلات، التي استغل القاضي عبود مشاركته في مؤتمرات دولية للمطالبة بإقرارها، خصوصًا أنّها من الإصلاحات المطلوبة في الورقة الفرنسية. وبسبب فيروس كورونا وتسريعًا للمحاكمات وخارج أيّ نصّ قانوني، اعتُمدت المحاكمات الإلكترونية لبتّ الأحكام المتأخّرة، واليوم معظم الأحكام صادرة بوقتها مع استثناءات قليلة، وهناك قضاة تحوّلوا إلى التفتيش القضائي، وأحال مجلس القضاء الأعلى للمرّة الأولى بعض القضايا إلى النيابة العامة التمييزية، منها قضية الضباط في ملفّ الإثراء غير المشروع ويحاكمون اليوم أمام قاضي التحقيق الأول ببيروت، فيما نُفّذت الاستنابات الصادرة عن القضاء السويسري في قضية جرائم تبييض الأموال في مصرف لبنان بكل حرفيّة ومهنيّة، وقد يرتّب هذا الأمر إمكان الملاحقة من جانب النيابة العامة التمييزية … وإذا كان هناك من تلكّوء في قضايا أخرى تُسأل عنه النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة المالية. ومن المعوقات أيضًا عدم إمكان عقد اجتماعات موسّعة مع القضاة”.
لكن في فمِ مجلس القضاء الأعلى الكثير من الماء. ويقول العارفون إنّه “قد يأتي الوقت ليبقّ القاضي عبود البحصة ويضع الرأي العام أمام الكثير من المعطيات، بعدما وُضعت العصي في دواليب مشروعه الإصلاحي داخل السلك”.