لبنان يحتل المرتبة الأولى من حيث القدرات الإنتاجية الأقوى على حوض البحر الأبيض المتوسط… ولكن! طاقة الصناعة الوطنية مدفونة تحت رماد اهتراء الطبقة السياسية
المؤسف ان العالم يقيّم لبنان، وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “UNCTAD”، في المرتبة الأولى بين دول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط لجهة القدرات الإنتاجية. وفي المقابل يتهم المسؤولون المحليون الصناعيين باخراج الرساميل، يجبرونهم على الإقفال، ويحرمونهم من التمويل. إنها المعادلة التي يتخوف الصناعيون من أن تكون الفاتحة لضرب القطاع الصناعي. وذلك على غرار ما حصل مع بقية القطاعات الإنتاجية والخدماتية.
الصناعة تختزن القدرات الكامنة
“ليست المرة الأولى التي نقع فيها بمثل هذه المعضلة”، يقول رئيس جمعية الصناعيين د.فادي الجميل. “فتقرير “ماكنزي” عاب على الحكومات السابقة عدم اهتمامها بالقطاعات الانتاجية ومنها الصناعة. ودراسات “الجمعية” مع منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية “UNIDO”، والبنك الدولي، وغيرها أكدت جميعها أهمية الصناعة والقطاعات الانتاجية في بناء الوطن”. اكثر من ذلك يقول الجميل لقد “أثبتنا أن الصناعة هي حاجة وطنية للاقتصاد، وبدّلنا نظرة المواطنين اليها. حيث برهنت الصناعة عن “طول نفسها”، وبأنها مصدر أساسي لتأمين الدولار الطازج. فليس هناك من بلد استطاع أن يلبي متطلبات فيروس كورنا بالسرعة القصوى كما فعلنا، وذلك على الرغم من كل الصعاب التي نواجهها. ففي ظرف أشهر قليلة أصبح لدينا معملان آليان لتصنيع الكمامات بعدما نجحنا في تصنيع الآلات. كما طورت 3 شركات أجهزة التنفس الصناعي بمواصفات عالمية، وعملت على تلبية حاجات السوق المحلي والتصدير إلى الخارج. وهذا تأكيد على القدرات الانتاجية الكامنة عند الصناعيين اللبنانيين”.
على مدار السنوات الماضية “عاش” الاقتصاد “حياته” بما يشبه مرض “الفصام”. فمن جهة كان حجم قطاعه المصرفي يعادل 263 مليار دولار، ويملك الكثير من الخبرات في مختلف المجالات. ومن جهة ثانية، لم يتخط حجم ناتجه المحلي 56 مليار دولار. الأمر الذي انعكس بشكل مباشر تدنياً في دخل الفرد. و”لطالما طالبنا بتصحيح هذا الوضع من خلال دعم الصناعة وتقويتها. حيث انه يستحيل الاستمرار بهذه السياسة”، يقول الجميل. و”ذلك ليس تعاطفاً أوعملاً بما تقتضيه منفعة القطاع، بل تحقيقاً لمصلحة البلد”. وبالارقام، فان دراسة UNIDO تشير بوضوح إلى ان كل وظيفة في القطاع الصناعي تخلق 2.2 وظيفة في بقية القطاعات. وعلى هذا المنوال فان تخفيض العجز التجاري بقيمة مليار دولار سنوياً يخلق 64 الف فرصة عمل في لبنان. وذلك انطلاقاً من ان كل 50 الف دولار ينتجها القطاع تتطلب عاملاً واحداً. وبالتالي فان زيادة الانتاج الصناعي بمليار دولار تخلق 20 الف وظيفة مباشرة في الصناعة و64 الف فرصة عمل في بقية القطاعات. و”تكون الصناعة بذلك الدواء للنمو ومحاربة البطالة”، برأي الجميل.
الحلول لم تكن مكلفة
تفويت لبنان فرصة الاصلاح الاقتصادي “التي كانت تُقضى بالاجراءات ومش بالمصاري” من وجهة نظر الجميل، “فجّرت البلد في تشرين الاول من العام 2019. فكل فاتورة دعم للقطاع الصناعي بشكل مباشر كانت تتطلب 200 مليون دولار، بالمقارنة مع ارتفاع الدين العام بقيمة 15 ملياراً في آخر 5 سنوات”. أي ان فاتورة النهوض بالقطاع الصناعي لم تكن لتشكل 1.3 في المئة من حجم الدين الذي ذهب أكثر من ثلثه على الكهرباء والباقي على الاستيراد. ومن وجهة نظر الجميل “كل الذي طالبنا به هو منع التهريب والاغراق وتأمين الدعم لبعض القطاعات التي لديها أكلاف إضافية على الطاقة المكثفة بقيمة 35 مليون دولار”. ولو حصل ما طالبت به جمعية الصناعيين لكنا وفرنا على البلد فاتورة انهيار هائلة ندفع ثمنها اليوم تراجعاً في النمو وبطالة وانهياراً اقتصادياً.
عالوعد.. يا صناعة
إنطلاقاً من ان لبنان بلد غير منتج للمواد الأولية، كثّف الصناعيون مطالبتهم بعد اندلاع الازمة النقدية نهاية العام 2019، بدعم الاستيراد من الخارج. حيث تشكل فاتورة استيراد المواد الاولية 30 في المئة من قيمة الصادرات المقدرة شهرياً بـ 200 مليون دولار، ينتج عنها 13 ملياراً صناعات وطنية؛ 10 مليارات تبقى في السوق المحلي كبديل جدي عن الاستيراد، و3 مليارات يعاد تصديرها إلى الأسواق العالمية لتأتي بالعملة الصعبة. ولتحقيق هذه الغاية برز الكثير من الحلول ابتداء من منتصف العام الأول للأزمة، وأبرزها: مشروع دعم الصناعات ذات الطاقة المكثفة بقيمة 300 مليون دولار، منصة أوكسيجين لتمويل الاستيراد بقيمة 750 مليون دولار، قرار مصرف لبنان الوسيط رقم 13213 الذي يطلب فيه من المصارف أن تمنح، على مسؤوليتها قروضاً استثنائية بالليرة اللبنانية او بالدولار الاميركي لعملائها الذين لا يستطيعون تسديد مستحقاتهم لثلاثة اشهر ( آذار ونيسان وايار 2020) بسبب الاوضاع، التعميم 556 القاضي بتسهيل إعطاء بعض الصناعات التصديرية من حسابات أصحابها 100 مليون دولار، وأخيراً إنشاء برنامج إقراض مستدام وقابل للتطوير لمساعدة الصناعيين الصغار والمتوسطي الحجم على تمويل استيراد المواد الأولية. و”بعد نحو سنة على الكثير من الوعود لم يتحقق إلا القليل”، يقول نقيب مصانع الرخام والغرانيت ومصبوبات الاسمنت، الصناعي ابراهيم الملاح. “فكل المبالغ المسيلة وفقاً للتعميم 556 لم تتجاوز 16 مليون دولار من أصل المئة مليون الموعودة. وصندوق أوكسيجين لم ينطلق بعد بالزخم المطلوب. فرغم كل الجهود المبذولة لانجاح هذه المبادرة برزت مجموعة من العراقيل، ليس أقلها أهمية “كورونا” وما رافقها من إقفالات في الداخل والخارج”.
أمّا في ما خص وعود الدعم وتسهيلات الاقراض من المصارف، فيتحدّث الصناعيون بلا حرج عن تمييع ما بعده تمييع للقرارات والوعود على قاعدة “عالوعد يا صناعة”. “فالعملية التي كانت تتطلبها حصول الصناعيين على أموالهم طازجة بحسب التعميم 556 كانت معقدة وتتطلب الكثير من الاجراءات الورقية والادارية، فلم يتشجع الصناعيون على الدخول بها بكثافة في بادئ الأمر”، يقول الملاح. “لكن بعد فترة فرضت إجراءات الحجر العام إقفال المصانع لفترات طويلة، وتباطأت وتيرة العمل، فتضاعف التأثير السلبي”.
عدا عن التمويل يشكو الصناعيون من غياب شبه كامل لحماية الصناعة الوطنية. “الدني فلتانة”، بحسب الملاح. “فخارج بيروت وجبل لبنان، الكل فاتح على حسابه. والتهريب بشكليه الداخل والخارج يؤذي الصناعة الوطنية النظامية بشكل كبير” وبرأيه فانه “بالاضافة إلى عاملي التمويل وغياب العناصر الحمائية، هناك غياب الاستقرارين الامني والسياسي وضغوط الظروف الاجتماعية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. والاخطر هو الارتفاع المحتم للأكلاف وتحديداً لجهة أكلاف الطاقة بعد رفع الدعم. يضاف إلى ذلك انعدام الاستثمارات الداخلة سواء كانت لفتح مصانع جديدة أو لتطوير القائم منها وزيادة المعدات وخطوط الانتاج”.
الأمين العام للأونكتاد موخيسا كيتوي وبختام التقرير اعتبر ان لبنان يعاني من أزمات متفاقمة، لكنه يمتلك القدرات الإنتاجية اللازمة التي تمكنه من التطور والنمو من مأزقه الحالي. محملاً الهيئة الحاكمة المسؤولية لاتخاذ الإجراءات السريعة المطلوبة، ولا سيما تشكيل حكومة قادرة على التركيز على تنفيذ الإصلاحات.