الإرهاب المحلي الداخلي في الولايات المتحدة
منذ 11 أيلول عام 2001 يوم الهجمات الإرهابية الضخمة على نيويورك وواشنطن، التي ذهب ضحيتها نحو 3000 نسمة بالإضافة الى تدمير مركز التجارة العالمي وقسم من وزارة الدفاع ووقوع خسائر مادية جسيمة، تحصر الأجهزة الأمنية الأميركية لمحاربة الإرهاب، بما فيها أجهزة الإستخبارات، نشاطاتها بالإرهاب القادم من الخارج، واصفة إيّاه بالإرهاب الإسلامي أو الإسلام المتطرّف.
ولكن، في 6 كانون الثاني الماضي، اقتحم مناصرو الرئيس السابق دونالد ترامب مبنى الكونغرس في واشنطن، بتشجيع وتحريض منه، في محاولة لعدم تمكين الكونغرس من تثبيت نتائج الإنتخابات الرئاسية التي فاز جو بايدن فيها. وعند وصول المقتحمين الى قاعة اجتماع أعضاء الكونغرس، الذين غادروها واختبأوا في قاعات أخرى من المبنى، لتجنّب تعرضهم للأذية أو ربما القتل أو الوقوع رهينة في أيدي مناصري ترامب الغاضبين، حصلت أعمال تخريبية في المبنى واعتداءات على الحراس، ما أدّى إلى مقتل أحد رجال الأمن وأربعة مدنيين وجرح مئة وأربعين شرطياً، ولم ينته إحتلال الكونغرس إلّا بعد وصول الحرس الوطني، وبعد أن طلب ترامب من مناصريه مغادرة المبنى.
نتيجة لهذا الإقتحام، وهو أمر سبق أن حصل مرة واحدة في تاريخ الولايات المتحدة عند احتلال الجيش البريطاني لواشنطن في حرب عام 1812، وبعد تهديد أعضاء من مجلسي الشيوخ والنواب بالقتل، بدأ الحديث العلني لدى الأجهزة الأمنية وفي وسائل الإعلام، عن وجود إرهاب داخلي محلي المصدر، لا ارتباطات خارجية له وينبغي معالجته بلا إبطاء.
لقد سبق ان وقعت في الولايات المتحدة أعمال شغب كانت تحصل أحياناً بطريقة عفوية رداً على مقتل أحد المواطنين من العرق الأسود، وكذلك وقعت أحداث قتل جماعي في مدارس أو كنائس، ولكنها لم تكن تُعتبر أعمالاً إرهابية لأنّ منفذيها كانوا إما أفراداً غير مرتبطين بمنظمات إرهابية خارجية، أو جماعات غير منظّمة يعبّرون عن غضبهم بأعمال شغب انتقاماً لمقتل أحدهم، مثلما حصل مثلاً في أيار عام 2020، عندما حصلت أعمال تخريب، بعد أن أقدم أحد رجال الشرطة على قتل مواطن أميركي من العرق الأسود خنقاً تحت قدمه في ولاية مينيسوتا، بعد ان اتهمه صاحب محل تجاري بتسليمه ورقة 20 دولاراً مزورة.
ولكن اقتحام مبنى الكونغرس ومحاولة إيقاع الأذى الجسدي بأعضاء من مجلس النواب ومجلس الشيوخ لتحقيق أهداف سياسية، يتمناها ترامب الذي لم يقبل بخسارته في الإنتخابات، وكان يسعى بكل الطرق للبقاء في البيت الأبيض، بعد أن أقنع مناصريه، الذين يدينون له بولاء أعمى، انّ تزويراً واسع النطاق حصل في العملية الإنتخابية. هذا العمل وما سبقه من أعمال شغب للأسباب نفسها في بعض الولايات، وكذلك التهديدات المتتالية التي أطلقها مناصرو ترامب بعزمهم على اقتحام المراكز الحكومية في جميع الولايات بما في ذلك العاصمة واشنطن يوم تنصيب الرئيس جو بايدن، كل هذه الأمور جعلت الأجهزة الأمنية تتجّه نحو الإعلان عن وجود إرهاب داخلي من إنتاج محلي بحت.
يبدو أنّ هذا الإرهاب المحلي الذي ظهر بنتيجة التحقيقات التي أُجريت مع الموقوفين بتهمة اقتحام الكونغرس، نابع في معظمه من إيديولوجية عنصرية تتبنّاها أقلية من الشعب الأميركي، ترى أنّ ابناء العرق الأبيض يتفوقون على سواهم، وخصوصاً على أبناء العرق الأسود الذين تبلغ نسبتهم أقل من 14% من مجموع السكان حسب آخر الإحصاءات. ومعروف أنّ العنصرية في الولايات المتحدة قديمة قِدَم هذه البلاد، إذ كان استيراد العبيد من أفريقيا أمراً طبيعياً منذ القرن السابع عشر، الى أن ألغى الرئيس أبراهام لينكولن العبودية، بتبنّي التعديل الثالث عشر للدستور في مطلع العام 1865 بعد حرب أهلية دامت أربع سنوات، تمّ بنتيجتها تحرير أربعة ملايين من العبيد.
تحرير العبيد وإلغاء العبودية لم يكونا يعنيان إعطاء أبناء العرق الأسود حقوقهم كمواطنين أميركيين، بل استمر التمييز العنصري والتفرقة الاجتماعية شبه التامة بصورة شرعية حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، حيث قامت تحركات للأفارقة – الأميركيين مطالبة بالمساواة بين جميع المواطنين، بقيادة القس مارتن لوثر كينغ الذي قُتل في تلك المرحلة، وصدرت القوانين التي تؤكّد المساواة لجميع المواطنين الأميركيين في الحقوق والواجبات أمام القانون.
هذه القوانين سمحت للأفارقة – الأميركيين بالإنخراط في المجتمع، بما في ذلك المشاركة في الإنتخابات تصويتاً وترشيحاً، ولكن بقي قسم من الأميركيين البيض غير راضين عن هذه التطورات، وإن لم يتمكنوا من محاربتها، لأنّ قوانين الحقوق المدنية التي صدرت في تلك المرحلة وما بعدها، تمنع التمييز بشتى وجوهه، وخصوصاً العرقي أو الديني، فكانت مواقف المتطرفين البيض مستورة الى حدّ ما ولا تتجسّد في أعمال وتصرفات على الأرض، الى ان بدأ ترامب حملته الإنتخابية التي أوصلته الى البيت الأبيض.
باشر ترامب حملته الإنتخابية بتهجمات علنية على المهاجرين من دول أميركا اللاتينية، متهمّاً ايّاهم بارتكاب جرائم وأعمال غير قانونية وأخذ فرص العمل من طريق الأميركيين الأصليين، كما كانت مواقفه السلبية من الأفارقة ـ الأميركيين معروفة وإن لم تكن علنية، وقد سبق له أن قاد حملة واسعة النطاق ضدّ الرئيس ذي البشرة السوداء باراك أوباما، متهّماً إياه بصورة مخطئة تماماً بأنّه مولود خارج الولايات المتحدة، ما يجعل رئاسته غير مشروعة.
وبعد دخوله البيت الأبيض، بدأ ترامب رئاسته بالسعي قدر المستطاع الى إزالة إرث أوباما، عبر إلغاء قرارات مهمة كان هذا الأخير اتخذها، وعبر الإستمرار في محاربته، وهذا ما شجع المتطرفين البيض الى تنظيم صفوفهم في جمعيات ومنظمات مؤيّدة لترامب بصورة تامة، كما حمل أصحاب البشرة السوداء، ومعظمهم من الديموقراطيين، على اتخاذ مواقف مناهضة لترامب ومؤيّدة لخصومه السياسيين، علماً أنّ أوباما هو أول رئيس أسود، ومحاربته أعتُبرت بمثابة محاربة أبناء العرق الأسود.
التنظيمات المؤيّدة لترامب، والتي ظهرت في بعض الولايات الأميركية، بدأت تستعمل وسائل عنفية، مثل تكسير محلات تجارية يملكها خصومه من العرق الأسود، وهم يرتدون ثياباً ميليشياوية عليها إشارات تدل الى تطرفهم، ويحملون السلاح لترهيب خصومهم، وصولاً الى اعتداءات جسدية بالضرب واحتلال أحياء ومناطق تتميز بأكثرية من العرق الأسود.
ترامب، وإن لم يكن يدعو مناصريه مباشرة الى القيام بهذه الأعمال العنفية، إنما كان سكوته عنها يشجع استمرارها وتعزيزها، وقد ظهر ذلك جلياً بعد إعلان نتيجة الإنتخابات الرئاسية التي رفضها، مدّعياً التزوير، وقد أيّده مناصروه في ذلك بصورة عمياء وصولاً الى اقتحام الكونغرس والتهديد بتعطيل عملية تنصيب بايدن، ما أدّى الى تحويل العاصمة واشنطن ميداناً عسكرياً يوم التنصيب، مع وجود 25 الفاً من عناصر الحرس الوطني.
إعلان وجود إرهاب داخلي غير مرتبط بإيديولوجيات وقوى خارجية أمر جديد في الولايات المتحدة، ومحاربة هذا النوع من الإرهاب دونه عقبات كثيرة:
ـ أولاً، لا يوجد قانون أميركي يحدّد مفهوم الإرهاب الداخلي، بل القانون الساري المفعول لمحاربة الإرهاب يتعلق بالتعاون مع قوى إرهابية خارجية، علماً أنّه يمكن محاكمة المتطرفين البيض المتهمين بالقيام بأعمال إرهابية بموجب قوانين الإعتداء على الغير والقتل واقتحام مراكز حكومية.
ـ ثانياً، هذا التطور الجديد على الساحة الأميركية يقتضي إعادة تنظيم أجهزة محاربة الإرهاب التقليدي، عبر تخصيص قسم منها لمحاربة الإرهاب الداخلي، مع ما قد ينتج من ذلك من تقصير محتمل في المراقبة وفي التصدّي لما قد يأتي من الخارج.
ـ ثالثاً، على الدولة الآن تأهيل عناصر أمنية وإعدادها وتدريبها للقيام بأعمال مراقبة تحرّكات هذه المنظمات الإرهابية الداخلية، علماً أنّ ذلك سيكلّف الخزينة أموالاً باهظة في هذه الظروف الإقتصادية الصعبة، حيث يسعى بايدن الى اتخاذ قرارات لإعادة إحياء الإقتصاد الوطني الذي تراجع كثيراً بسبب جائحة الكورونا.
أخيراً، العقبة الكبرى في هذا الإطار تكمن في صعوبة مراقبة المواطنين الأميركيين، في ظلّ القوانين القائمة، سواء لجهة حرية التعبير المصانة بالدستور، وعدم إمكانية التنصت على المواطنين الأميركيين، أو لجهة حرية اقتناء السلاح الذي هو حق شبه مقدّس عند قسم كبير من الأميركيين، ولم تفلح حتى الآن اي ضغوط من المجتمع المدني في تنظيمه ولو في حدّه الأدنى. لذلك، يبدو أنّ محاربة هذا النوع الجديد من الإرهاب في المجتمع الأميركي ستكون صعبة جداً، إذ ستقتصر على محاكمة المرتكبين بعد القيام بأفعالهم، دون التمكن من معرفة وتوقّع الأحداث بصورة مسبقة.
بايدن وعد في حملته الإنتخابية أنّه سيعالج هذا الموضوع عبر تعديل القوانين، إلاّ أنّ هذا التحدّي يبدو صعباً جداً في ظلّ العقبات التي من المحتمل أن يضعها الجمهوريون في الكونغرس لهذه التعديلات التي من شأنها ان تصيب قاعدة ترامب المؤيّدة له تأييداً أعمى، خصوصاً وأنّ هذا الحزب أصبح يميل بأكثريته نحو اليمين المتشدّد نتيجة لمواقف ترامب، إذ أنّ أعضاءه إما يؤيّدون مواقفه أو يخشون على مستقبلهم السياسي من مخاصمته.
لدى بايدن أولويات داخلية وخارجية كثيرة ومهمة جداً، لذلك، فإنّ محاربة الإرهاب الداخلي ستتطلب بعض الوقت، ومدى نجاح بايدن في معالجة الملفات الساخنة مثل جائحة كورونا والإقتصاد الوطني ستُحدّد مدى إمكانية نجاحه في هذا الموضوع الشائك.