“تدويل” دستوري
لا يعنينا، إلا من باب الاطلاع والكوميديا السوداء، السجالُ العقيم على التأليف بين جبران باسيل القائم مقام رئيس الجمهورية، وبين الرئيس الحريري المتشبث بورقة التكليف رغم مضي 4 أشهر عجاف تعمَّق خلالها الانهيار الداخلي وتعقَّدت اللعبة السياسية، مع التجاذب المستجد على علاقات واشنطن بطهران.
واقع الأمر ان اللبنانيين – رغم حاجتهم الى تشكيل أي حكومة وبأي مواصفات لغياب النية في حكومة مستقلين اختصاصيين – باتوا واثقين بأن لا حلَّ يُنجّيهم من درب الهلاك الذي وضعتهم عليه المنظومة الفاسدة إلا بتغييرٍ جذري، لا يزيح الوجوه المسؤولة عن تفكك أوصال الدولة وإفقار مواطنيها فحسب، بل يعالج أيضاً الجوهر المتمثل بالحفاظ على الكيان وقيام دولة سيدة آمنة يحكمها القانون.
واضحٌ ان السلطة المتحكمة هي من قماشة كلّ أنظمة الإستبداد التي قامت في التاريخ وفي الجوار القريب. تريد الاستئثار الكلّي أو تعمّم الخرابَ على الجميع. فلا فهمتْ من ثورة الشباب اللبناني في 17 تشرين ان مطلب الاصلاح الشامل صار من صلب قناعات أكثرية المواطنين، ولا استنتجت من حادث المرفأ الاجرامي ان زمن الإفلات من الحساب ولّى، وأن ضخامة الحدث، بما خلَّفه من أضرار بشرية ومادية هائلة، لا تتيح انهاءه بتدفيع شركات التأمين تعويضات وقفل الملف على أساس ان انفجار نيترات الأمونيوم على رؤوس أهل العاصمة شأنٌ عرَضي. وإذ استسهلت المنظومة سياسة فرض الوقائع مرفقة بالقوة العارية منذ 14 شباط 2005، فإنها استهانت بمطالبة البطريرك الماروني قبل أشهر بحياد لبنان، فأطلقت ألسنتها الجاهزة لممارسة لعبة التخوين، ولم يقَصّر جبران باسيل نيابة عن رئيس الجمهورية في “التعمية” عبر الحديث الجبان عن “التحييد”.
تستهول المنظومة الحاكمة اليوم دعوة سيد بكركي الى “التدويل”، وتأخذ عليه التصدي لهذا الشأن الخطير في غياب “اجماع وطني”، لكنها تنسى ان البطريرك لم يبادر الى هذه المهمة الجليلة إلا لأنها أمعنت في تفكيك الدولة وتهديد الكيان، ولأن رئيس الجمهورية تحديداً مستنكفٌ عن واجبه الوطني في إحقاق الحق والحفاظ على الدستور، وخصوصاً عن معالجة ازدواجية السلاح والسلطة فيما كان أكثر المؤهلين لأداء دورٍ تاريخي على هذا الصعيد.
لا يطرح البطريرك الراعي “التدويل” كي يضع الخارج يده على لبنان، بل ليعيد الاعتبار الى دستور الطائف الذي لا يزال يشكل نقطة لقاء اللبنانيين اذا أتمُّوا تطبيقه واقتنعوا بلا جدوى مشاريع الغلبة والهيمنة، وينادي به خصوصاً لتجنب السقوط في طروحات الفدرلة و”تحالف الأقليات” البغيض. أما التشديد على “مؤتمر دولي” فلا هدف له إلا ضمانة أممية تسمح باستعادة الدولة وحكم القانون من براثن مفترسيها الاقليميين، فلا تسيب حدود، ولا تضيع دماء ضحايا بين حصانات سياسيين مرتهنين او حمايات أمنيين، ولا يخسر المودعون جنى أعمارهم فيما أصحاب السلطة والنفوذ يهرّبون أموالهم والسارقون خبراء بـ”الملاذات الآمنة”.
دعوة البطريرك هي طرح وطني وأخلاقي، طريقها جلجلة تتّسع لجهد الجميع، والأمل معقود لتكون بها قيامة لبنان وخلاص اللبنانيين.