الحدث

الأميركيون بين الفوضى والمسؤولية الوطنية: من فجّر؟

عباس ضاهر – خاص النشرة

هل يشكّل إنفجار مدينة ​ناشفيل​ الأميركية بداية لسلسلة توترات داخل ​الولايات المتحدة​، وسط انقسام سياسي وشعبي افقي حقيقي؟ ينطلق السؤال المذكور من طبيعة وطريقة وتوقيت التفجير.

تقع المدينة المذكورة في ولاية تينيسي، وهي على خط تماس ​الشمال​ و​الجنوب​، ويحكم الولاية الحزب الجمهوري(الحاكم): يمثّلها تسعة أعضاء في ​مجلس النواب​، بينهم سبعة جمهوريون. تعجّ الولاية بالمحافظين المتشدّدين الذين ينضوون في ميليشيات مسلحة وحركات عنصرية علنية. ومن هنا يُرجّح ان يكون الإنفجار حمل رسالة اعتراض على قرارات إتخذها الرئيس المُنتخب ​جو بايدن​ الذي عيّن في ادارته سياسيين “سود” وأقليات، وإختار وزيراً للامن الداخلي من ​الهنود الحمر​.

لا يستسيغ المحافظون المتشدّدون تلك القرارات “البايدنية” لأنها تتعارض مع التصلّب الأميركي الذي يظهره أولئك المحافظون إزاء “الآخرين” عند كل حادث وفي جميع المراحل. لذا، افادت كل المعطيات بعد وقوع التفجير أن الإنفجار هو رسالة سياسية مدروسة خطّطت لها ونفّذتها مجموعة متعددة المهام، توزّعت بين من درس المكان والزمان والتداعيات، ومن تولّى جمع كميات ضخمة من المتفجرات، ومن اختار وقت صبيحة ​عيد الميلاد​ الذي تخلو فيه الحانات و​المطاعم​ والشوارع من الناس كي يقتصر الصدى على الرسالة من دون ​ضحايا​، ومن تقصّد تحذير الناس للإبتعاد قبل حصول الإنفجار: بالتأكيد وصلت الرسالة إلى المعنيين.

هل ساهم الإعلام الأميركي في ترسيخ هدف الرسالة؟.

هل شاهد ​العالم​ مكان التفجير؟ هل جرى التمعن بطريقة تعامل وسائل الإعلام الأميركية-الموالية والمعارضة لكل من الرئيسين الحالي ​دونالد ترامب​ والمنتخب جو بايدن-مع حادثة التفجير في ناشفيل؟ إقتصر المشهد على لقطات مسرّبة مسجّلة. لم يُسمح بعدها للإعلام أن يبث مشاهد حيّة في رسائل للإعلاميين من مساحة الحدث. واذا كان هناك من ينعت ​الدولة​ الأميركية انها تقمع الحرية الإعلامية، كما حال الدول الديكتاتورية التي تمنع الاضاءة على أحداث مشابهة، فإن هناك إيجابيات تفوق سلبيات منع التغطية الإعلامية من أرض الحدث.

عادة يُفرض على الإعلام الأميركي قيود تحت عنوان: المسؤولية الوطنية. لا يوجد في القاموس الأميركي حياد إزاء كل حدث يؤثر على المصلحة الوطنية. ومن هنا يأتي الإلتزام الإعلامي الأميركي بإجراءات وتوصيات سياسية وأمنية وطنية تتجاوز كل خلافاتهم وتبايناتهم. إنها مسألة وطنية نبيلة: لماذا لا يقبل الأميركيون أن تطبّق تلك المعادلة في باقي عواصم العالم؟ هم يهاجمون أي دولة تفرض قيوداً على الإعلام في زمن الأزمات ووقت حصول أحداث، بينما يطبّقون الإجراءات في ولاياتهم. الفارق بين الأميركيين ودولنا أنهم يؤمنون بتدابير دولتهم، بينما نذهب في ​لبنان​ مثلاً للعبث بالمسؤولية الوطنية تحت حجة الحرية والموضوعية والحيادية.

لا بدّ هنا من بحث العلاقة بين “​الأمن​ القومي” للدولة والحرية الصحافية. فإدارات الولايات المتحدة كانت فرضت في كل المراحل السابقة القيود تحت عنوان “الأمن القومي”. علماً بأن مفهوم هذا الأمن هو ​سلامة​ المجتمع واستقراره وعدم السماح بتسلل المخاطر الى الشعب، عبر منع ​العنف​ او التعدي على سيادة واستقلال واستقرار الدولة. وفي كل الاعتبارات يتبين ان مفهوم “الامن القومي” هو مجموعة من الإجراءات التي تُتخذ وفق خطة هادفة لحماية مصالح الدولة وشعبها. ومن هنا تأتي القرارات الأميركية بمنع تفلت وسائل الإعلام في التعاطي مع الأحداث الخطيرة.

فلنتخيل أن الإعلاميين هناك نزلوا الى أرض الحدث -كما نفعل نحن في لبنان- وبدأوا يجولون ويصوّرون ويستصرحون كل متضرر وغاضب خلال بث مباشر. عندها ستزداد تداعيات الحدث بشكل يؤثر على معنويات الأميركيين وتوجهاتهم، ويزيد من حجم التباين القائم حالياً بين مؤيدي بايدن وترامب.

لذا، فإن انضباط الإعلام الأميركي يأتي لخدمة اهداف وطنية عامة، فيقتصر المشهد الإعلامي على التحليل والقراءة في أبعاد الحدث، مهما كان حجمه. وبمقدور الدولة الأميركية أن تفرمل اي اندفاعة إعلامية تشذّ عن مفهوم “الامن القومي”.

من خلال استحضار مجمل استطلاعات الرأي التي جرت في الولايات المتحدة سابقاً في هذا الشأن، تفيد النتائج ان الأميركيين راضون عن “وطنية الإعلام في زمن الأزمات”. لا تخفي الإدارات الأميركية تدخلاتها مع الإعلاميين ومؤسساتهم، لكنها ترفع عنوان”حماية الولايات المتحدة من مخاطر محتملة”. لذا، كانت ​الصحافة​ الأميركية تلتزم بالكامل بتوجيهات ادارة الدولة التي تعتبر ان مصلحة الولايات المتحدة فوق كل اعتبار، متجاوزة أي موقع او رأي، أو خلاف او تباين مهما كان حجمه. ومن هنا كان جاء توجه ترامب الى “​تويتر​” كبديل عن مؤسسات إعلامية توزعت بين معارضة لسياساته ورافضة لمشاريعه وهي مؤسسات تميل للديمقراطيين، وبين من وضعت ملاحظات على خطواته رغم ان هذه المؤسسات تؤيد حزبه الجمهوري.

بجميع الأحوال، أوصل التفجير رسالته، وكرّر الاعلام تطبيق دروس اتقن تنفيذها بحرفية والتزام بمصالح الدولة. فهل يقتصر الأمر هنا؟ أم أن هناك مزيداً من الرسائل ستهزّ ركائز الدولة ومنها إجراءات الإعلام؟ فلنرصد الأيام الاخيرة لإدارة ترامب: الولايات قلقة من توترات تفرض فوضى او تُشتّت الشمل الأميركي. عندها لا تنفع مسؤولية وطنية يلتزم بتدابيرها الاعلام عن قناعة لإستقرار الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى