وساطة “الحزب”: ثلاث رسائل لواشنطن
شارل جبور-الجمهورية
لم يكن إفراج «حزب الله» عن مفاوضات الترسيم عشيّة الانتخابات الأميركية بعد سنوات من الاحتجاز سوى هدية على الحساب لإدارة الرئيس دونالد ترامب من أجل تسليفها خطوة سياسية في حال فازت في الانتخابات، فهل يتكرر الأمر نفسه مع إدارة الرئيس جو بايدن في الملف الحكومي؟
مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل هي ورقة سياسية بيد طهران، واستطراداً «حزب الله»، والجانب التقني فيها هو مجرّد تفصيل يمكن الوصول إلى تفاهم حوله متى وجد القرار السياسي، ولكن هذا القرار غير موجود بعد، وكل ما حصل في هذا الملف لا يتعدى المناورة السياسية التي أرادتها إيران ومعها «الحزب»، في رسالة حسن نيّة وانفتاح واستعداد للتعاون مع الإدارة السابقة في حال فوزها في الانتخابات، والهدية التي قدمِّت لترامب هي ثمينة لـ3 أسباب أساسية: كونها تعزِّز الصورة التي عمل على تكوينها بأنه صانع السلام في الشرق الأوسط، وما حَقّقه على هذا المستوى غير مسبوق، وبالتالي الهدية الإيرانية تصبّ في مصلحته الانتخابية. والسبب الثاني كونها تُظهر استعداد طهران للحوار والمفاوضات، أمّا السبب الثالث فيتمثّل في كونها تُسقط نظرية انّ الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود.
فالمفاوضات مع إسرائيل تعني عمليّاً العودة إلى «اتفاقية الهدنة»، وأي عودة من هذا النوع تتعارَض مع كل عقيدة «حزب الله» وأيديولوجيته، كما أنّ إنجاز الترسيم وانطلاق التنقيب عن النفط يعني انتهاء المقاومة بمعزلٍ عن مصير مزارع شبعا التي تحولت أساساً إلى جولان آخر، وأي عمل عسكري حصل، أم مُحتَمَل حصوله، لا يتجاوز العمليات التذكيرية. ولكن على رغم كل ذلك لا يمكن للترسيم ان يُنجز او يتحقق سوى بقرار سياسي، ومفاتيح هذا القرار ليست في لبنان، إنما في طهران. وبالتالي، يرتبط هذا الملف ارتباطاً عضوياً بمستقبل العلاقة الأميركية-الإيرانية والإسرائيلية-الإيرانية.
والعقد التي ظهرت وأدّت إلى توقيف المفاوضات بسبب الطرح اللبناني المغاير لاتفاق الإطار الذي أعلن عنه ما هي سوى عقد مُفتعلة تماماً على غرار العقدة التي نَبشها الرئيس الراحل حافظ الأسد في بحيرة طبريا لأنه لا يريد ان يسجّل على نفسه توقيعاً للسلام مع إسرائيل، وبسبب خشيته من أن تؤدي خطوة من هذا النوع إلى اضطرابات في سوريا، وألّا يتمكّن وريثه من حَملها وحمايتها. وبالتالي، إنّ العقد التقنية هي غالباً ما تكون مفتعلة بانتظار ان ينضج المسار السياسي، وهذا المسار غير ناضج لبنانياً بعد، ما يعني انّ الأمور تبقى في حدود الرسائل السياسية.
وفي إطار الرسائل السياسية بالذات، فإنّ إعلان «حزب الله» دخوله على خط الوساطة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، سَعياً لحلحلة العقد التي تعيق تأليف الحكومة، يندرج في سياق رسائل «الحزب» إلى الإدارة الأميركية الجديدة، والتي يمكن وضعها ضمن 3 أساسية:
الرسالة الأولى، انّ العقدة الحكومية هي محلية لا خارجية تتعلق بطهران، وإلّا لم يدخل «الحزب» من أجل التوسُّط بين عون والحريري لحلّها، وبالتالي هذا الدخول المُعلَن عنه، والذي يعدّ من الخطوات النادرة والمغايرة لأسلوبه، يرمي إلى توجيه رسالة واضحة بأن لا علاقة لطهران بالعرقلة التي هي محلية بامتياز، والدليل دخوله على خط معالجتها، ما يعني أيضاً انّ إيران لا توجّه رسالة تَشَدُّد لأميركا من لبنان، بل على العكس هو الصحيح.
الرسالة الثانية، انّ «الحزب» هو قوة استقرار سياسي في لبنان، وانّ العقدة الموجودة لا علاقة له بها. وإنّ مجرّد دخوله على خط الوساطة يعني انها تتعلّق بقوى سياسية أخرى، وما سَعيه لحلها سوى لإظهار حرصه على الاستقرار.
الرسالة الثالثة، انّ «الحزب» حريص على إهداء الحكومة لأميركا لا فرنسا لسبب جوهري، هو انّ باريس تسعى لموطئ قدم في لبنان، فيما بيروت تشكّل ملفاً من ملفات العلاقة المأزومة بين واشنطن وطهران. وبالتالي، يفضِّل «الحزب» عدم تجزئة الملفات والتعامل مع واشنطن بالجملة لا المفرّق.
ودخول «حزب الله» على خط الوساطة لا يعني تَكلّلها بالنجاح، خلافاً للانطباع السائد على هذا المستوى بأنّ كلمته لدى حلفائه لا تخضع للمراجعة، لأنّ العلاقة بين الطرفين قائمة أساساً على المعادلة المعروفة: «الحزب» يشكّل قوة فيتو تحقيقاً لمصالح حلفائه، والحلفاء يوفّرون الغطاء لدوره وسلاحه، ودور الحاج وفيق صفا او غيره ليس كدور غازي كنعان او رستم غزالة، فكلّ ما يتصل بالسلطة والنفوذ خاضع للمقايَضة، والأمر الوحيد الذي لا نقاش فيه هو المسائل الاستراتيجية.
وغالباً ما تكون العقد السياسية من طبيعة محلية، خلافاً أيضاً للانطباع السائد. والعقدة التي تحول اليوم دون تشكيل الحكومة هي عقدة محلية بامتياز، وتتعلّق بنظرة العهد للحكومة العتيدة وسَعيه للإمساك بمفاصلها، وهو يلعب على وَتر الشراكة والتعبئة المسيحية من 3 أبواب أساسية: باب تسمية الوزراء المسيحيين، وباب حق رئيس الجمهورية بإعطاء رأيه بمُجمل التشكيلة لا الحصة المسيحية فقط، وباب انّ الحكومة قد تكون الأخيرة في العهد وفي حال تَعذَّر انتخاب رئيس للجمهورية يجب ان تكون متوازِنة في تأليفها تَجسيداً لمبدأ الشراكة وقدرتها على إدارة الفراغ من باب التوازن لا الإخلال بهذا التوازن، فيما رهان الرئيس المكلّف على الدَفع الفرنسي وإرضاء الثنائي الشيعي لتمرير تشكيلته الحكومية لم يكن في محله، وسرعان ما وجدَ نفسه وجهاً لوجه مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وغير قادر على التقدُّم ما لم يُسَلِّم بشروط العهد في التأليف، ولن تبصر الحكومة النور قبل ان ينتزع العهد شروطه التي يُدرِجها تحت عنوانين: في الشكل: من أجل لَي ذراع الحريري في سياق الصراع المفتوح بين الحريري وباسيل. وفي المضمون: لأنه يريد حكومة لمصلحة العهد لا ضده.
فالفرصة التي تحدّث عنها الحريري في تأليف حكومة مستقلين اختصاصيين غير موجودة، وهذه الفرصة انتهت مع اعتذار الدكتور مصطفى أديب، وما عليه اليوم سوى إمّا الاعتذار، او تأليف حكومة من اختصاصيين غير مستقلّين على طريقة الحكومة المستقيلة، وأكثر ما يمكنه فِعله هو تحسين نوعية الوزراء داخل هذه الحكومة، وانتزاع التعهدات من القوى المكوّنة لها بالعمل كفريق منسجم لا ان تتحوّل إلى متاريس ومواجهات لا طائل منها.
وقد تنجح وساطة «حزب الله» في حالة واحدة هي إعطاء العهد الضمانات التي يبحث عنها. وإذا كان العهد يبحث عن ضمانات داخل الحكومة تُبقيه مُمسِكاً بمفاصلها، فإنّ الرئيس المكلّف يبحث عن ضمانات خارج الحكومة تمنحه الضوء الأخضر العربي والغربي للانطلاق بعيداً عن عقوبات مُحتملة او غيره، وبين الطرفين يحرص «الحزب» على توجيه رسالة مثلّثة الأضلع للإدارة الأميركية الجديدة: بأنه قوة استقرار في الداخل ومُساهم في دَفع مسار تشكيل الحكومة قُدماً، وبأنه قوة استقرار على الحدود وعلى استعداد لمواصلة مفاوضات الترسيم مع الإدارة الجديدة، وبأنّ طهران على استعداد للتعاون لا العرقلة. وفي المحصّلة، فإنه على غرار تقديمه المفاوضات هدية لترامب يقدِّم وساطته اليوم هدية لبايدن.