حزب الله يعلن: لبنان دولة صديقة
إيلي القصيفي -أساس ميديا
بموازاة عقله الأمني والعسكري يمتلك “حزب الله” عقلاً سياسياً يظهر مع الوقت أنّه أكثر جاهزية واستعداداً للتعامل مع الوقائع السياسية من سائر الأحزاب اللبنانية التي ازدادت ترهّلاً وانكشافاً بعد الأزمة الاقتصادية. وهو ما يدفع إلى قياس النجاح السياسي للحزب بفشل الأحزاب الأخرى لا بكفاءة الحزب نفسه الذي أظهرت الأزمة أيضاً ضعف حجّته. مع فارق أنّه لا يخضع لأيّ نوع من المساءلة، خصوصاً أنّ مسؤوليه، بدءاً من أمينه العام، غير مستعدّين لأبسط شروط اللعبة الإعلامية. فهم إمّا يمتنعون عن التصريح، أو يتحدّثون عبر الشاشة لوحدهم، وإذا قبلوا بالحوار ففي وسائل إعلامية موالية.
هذه اليقظة السياسية والتحفّظ الإعلامي لدى الحزب تفرضهما عليه التّحديات التي يواجهها بموازاة خططه الهجومية لتوسيع نفوذه، خصوصاً في ظلّ انخراطه في المعركة الإقليمية، والضغوط الدولية عليه، فضلاً عن سعيه لـ”إدارة” الساحة اللبنانية بوصفها ساحة نفوذ إيرانية رئيسية.
كلّ ذلك يجعل الحزب لا يأخذ قراراته اعتباطاً وعلى تسرّع، بل إنّ أي قرار يصدر عنه مدروس بناء على أولوياته السياسية وتبعاً لخصائص اللحظة.
من هنا فإنّ ادّعاء الحزب على رئيس “لقاء سيدة الجبل” الدكتور فارس سعيد مرتبط بظرف سياسي محدّد. بالتالي فإنّ السؤال المطروح هو: لماذا هذا الادّعاء الآن وليس قبل شهر أو سنة أو ثلاث سنوات إلخ… وسعيد معروف بمعارضته سياسة الحزب ليس من الآن وإنمّا منذ 15 سنة بالحد الأدنى؟!
والحال هذه لا يمكن عزل لجوء الحزب إلى القضاء لمقاضاة خصوم له عن الإطار السياسي العام الذي فرضته تسوية 2016 التي أوصلت العماد ميشال عون حليف الحزب إلى رئاسة الجمهورية، وهو ما أتاح للحليفين “الوجوديين” إحكام سيطرتهما على المفاصل الأساسية للدولة. بالتالي فإنّ لجوء الحزب إلى القضاء في هذا التوقيت بالذات هو بمثابة إعلان من قبله بأنّ الدولة اللبنانية بإدارتها وأجهزتها القضائية والأمنية باتت دولة “صديقة” ومأمونة الجانب.
كما أنّ خطوة الحزب هذه هي إعلان من جانبه أنّه مصمّم على الانخراط أكثر في التفاصيل اللبنانية وأنّ هذا الانخراط هو خيار استراتيجي بالنسبة إليه، بعدما كان في الفترة الماضية منشغلاً أكثر في معارك المنطقة. وإن كان لم يغفل الشأن اللبناني لكنّ الظرف الآن أكثر إلحاحاً عليه للانخراط فيه.
من جهة ثانية فإنّ الإدعاء على سعيد متصلّ بصورة أساسية بالعمل السياسي الذي يقوم به، لاسيّما لجهة مطالبته جهاراً نهاراً برفع وصاية إيران عن لبنان.
لقد لمس سعيد انزعاج الحزب من هذا الشعار باكراً، عندما امتنع فندق البريستول عام 2018 عن استضافة خلوة لـ”لقاء سيدة الجبل” ترفع هذا الشعار. وعُلم وقتذاك أنّ ثمّة من “نصح” الفندق بالعدول عن استضافة الخلوة. وعندما سُئل فندق آخر في بيروت كان جوابه مشابهاً. مع العلم أنّ وليد جنبلاط كان قد أعلن في تلك الفترة في مقابلة مع مارسيل غانم أنّ الحزب طلب منه عدم مهاجمة إيران، وهو ما يعكس تحسّس الحزب من هذا الأمر.
هذا يحيلنا إلى نقطة أساسية في طبيعة العمل السياسي لسعيد تتمثّل في أنّه يجمع حول طرحه مسلمين ومسيحيين. وهذه مسألة يبدو أنّها تزعج الحزب بشدّة بعدما ارتاح إلى الترسيمة الطائفية للعبة السياسية التي كرّسها منطق تسوية 2016 ثمّ قانون الانتخابات الذي جعل القوى السياسة تنكفئ إلى داخل طوائفها، وذلك على حساب أي عمل سياسي جبهوي يتطلّب عناوين كبرى وتحالفات عابرة للطوائف.
على هذه الصورة بات “حزب الله” أكثر قدرة على تبرير سياساته التعبوية المذهبية كما على إحكام سيطرته على مفاصل الحكم الرئيسية لاسيّما السياسة الخارجية للدولة ما دامت القوى السياسية الأخرى مهتمّة يتعزيز مواقعها ضمن طوائفها أو بنيل حصّتها من كعكة السلطة.
لذلك فإنّ سعيد، بعمله على زعزعة الترسيمة الطائفية للعبة، على النقيض من قواعدها المرسومة بعناية لتأمين الغلبة للإئتلاف الحاكم، فهو يغضب “حزب الله” الذي اتخذّ صفة الادعاء الشخصي ضدّه، خصوصاً في لحظة الضعف القصوى لحليفه المسيحي، أي العهد والتيار الوطني الحر، لاسيما بعد انفجار الرابع من آب وثمّ مع العقوبات على جبران باسيل التي اضطرته إلى العمل من وراء الكواليس.
من هنا فإنّ الحزب يستهدف سعيد بصفته شخصية سياسية مسيحية مناوئة للعهد والتيار، لا بل شخصية تدعو لاستقالة رئيس الجمهورية بوصفها مدخلاً لرفع وصاية إيران عن لبنان، وذلك بخلاف القوى المسيحية الأخرى التي تحاذر هذه الدعوة لحسابات سياسية وطائفية.
في المحصلة فإنّ لجوء “حزب الله” إلى مقاضاة خصومه في دعاوى من طبيعة سياسية وفق توصيف وليد جنبلاط، ينمّ عن سلوك جديد للحزب في التعامل مع الواقع اللبناني يعكسُ إرادته في إظهار وتكريس نفوذه داخل أجهزة الدولة الللبنانية، في لحظة رسم خرائط النفوذ في المنطقة. كما أنّ الإدعاء على سعيد كشخصية سياسية تقدّم سردية سياسية مناقضة لسردية الحزب – وهي دعوى تعدّ سابقة في نوعها – ينمّ عن إرادة الجهة المدعية في منع أي “خطاب بديل” في لبنان. فإذا لم يكم بالقضاء يصبح القدر هو الأصح.