خيارات استراتيجية أمام بايدن “الواقعي” ستكون السياسة الخارجية بقوة الدبلوماسية والاقتصاد والخيارات العسكرية الدقيقة
عام 2016 وضع هنري كيسنجر معادلة دقيقة أمام الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترمب: “ما الذي نريد تحقيقه ولو كان علينا السعي إليه وحدنا؟ وما الذي نريد منعه ولو كان علينا محاربته وحدنا؟”. لكن، ترمب المقاول الذي لا يحب القراءة ولا المعادلات المعقدة، ويفضّل إدارة السياسة بالتغريد عبر “تويتر” أخفق في الأمرين خلال أربع سنوات. فلم يجنِ تحت شعار “لنجعل أميركا عظيمة ثانية” سوى انهيار ثقة الحلفاء في أوروبا والعالم بقيادة أميركا والتزامها. ولا هو تمكّن، بالضغوط الفجة أو بالإغواء الناعم، من منع الخصوم من تحقيق المكاسب على حساب أميركا.
مكاسب الخصوم
الصين بقيادة شي جينبينغ وصلت إلى مرتبة القوة العظمى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. وروسيا بقيادة فلاديمير بوتين استعادت دور القوة العالمية، وضمّت شبه جزيرة القرم، وغيّرت موازين القوى في حرب سوريا. أما كوريا الشمالية بقيادة كيم جونغ أون الذي سماه “صديقي العزيز” فاستمرت في تطوير الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية.
وتدخلت تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط والقوقاز، واشترت، وهي عضو في الحلف الأطلسي، صواريخ “أس 400” الروسية من دون عقاب. وأخيراً إيران بقيادة المرشد الأعلى علي خامنئي وسّعت نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وعاودت تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية، واستمرت في تطوير الصواريخ الباليستية.
العواصف المقبلة
الرئيس المنتخب جو بايدن، وهو أطلسي مخضرم، جاء رافعاً شعار “أميركا يجب أن تقود ثانية”، والعمل ضمن “أجندة سياسية تضع أميركا على رأس الطاولة مع الحلفاء والشركاء”. وأمامه مروحة واسعة من الأفكار المقترحة حول الاستراتيجية الأميركية في عالم متغير.
تحدث كريستوفر لاين في “فورين أفيرز” عن “العواصف المقبلة”، بينها “حرب بين أميركا والصين” في الشرق الأقصى، وجادل بأن من الخطأ الركون إلى نظريات نهاية الحروب بين القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وطالب باستراتيجية عظمى. البروفسوران جون ميرشيمر وستيفن والتر ركزا على صنع “استراتيجية عظمى أوف شور”، قوامها “إقامة توازن إقليمي بين القوى من دون تدخل أميركي إلا عند تهديد المصالح الحيوية”. والهدف هو “تقليل تعهدات أميركا الخارجية للالتفات إلى تنمية الداخل”.
ودعا السناتور تيم كاين، الذي ترشح كنائب لهيلاري كلينتون، إلى نسخة جديدة من “مبدأ ترومان” للقرن الحادي والعشرين، بالتالي إلى “استراتيجية عظمى في عالم شديد الترابط واستراتيجية أمن قومي تعتمد الفعل لا رد الفعل”.
تكلفة الاستراتيجية العظمى
في المقابل، فإن البروفسور ستيفن ويرثايم رأى أنه “لا سبب لدى أميركا، لأن تكون قوية هكذا، وليس عليها أن تسيطر على العالم”، لكنها عملت العكس، بحيث زادت التزاماتها، وصار لديها “قوى في 170 بلداً”. كذلك اعتبر دانيال درزنر ورونالد كريبس وزاندال شويلر، وهم أساتذة علوم سياسية، أن “العمل على الاستراتيجية العظمى كثير التكلفة وغير بنّاء”.
كان منطقهم “أن القوة في السياسة الكونية لم تعد ما كانت عليه، وقدرة الدول على استعمال القوة وطريقة الممارسة والأهداف تغيرت جوهرياً. والقوة التقليدية لم تعد تشتري النفوذ”. وفي العدد الأخير من”فورين أفيرز” كتبت هيلاري كلينتون مقالاً تنتقد فيه “عسكرة السياسة الخارجية”، وتدعو إلى “إصلاح المؤسسة العسكرية”، والتخلي عن أسلحة لحروب سابقة من أجل “أسلحة للقرن الحالي”.
تحديات الداخل
هذا، ليس كل ما أمام بايدن بالطبع. وهو لا يأتي إلى الرئاسة خالي الوفاض من الخبرة والتجارب على مدى 47 عاماً في الكونغرس ثم نيابة الرئاسة، فالتحديات في الداخل ليست أقل من الخارج. لديه مشروع استثماري داخلي مهم بقيمة أكثر من تريليوني دولار، لكن الجمهوريين لن يسهّلوا له الأمر إذا احتفظوا بالسيطرة على مجلس الشيوخ.
طموحه لـ”إصلاح ديمقراطيتنا في الداخل وتقوية تحالف الديمقراطيات حول العالم” قابل للتطبيق على الطريق إلى “قمة كونية ديمقراطية” تعهّد الدعوة إليها في السنة الأولى للولاية. والاستراتيجية التي يفضّلها من أجل “الدور القيادي” ليست استراتيجية ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأن “أميركا خسرت على الأرض، وسفينة الدولة تسير في الاتجاه الخاطئ، والعالم تحرك”، كما يقول ين رودس نائب مستشار الأمن القومي أيام الرئيس أوباما. فما الاستراتيجية التي تتجاوز “احتواء” الصين وروسيا و”ضبط” إيران وتركيا وإسرائيل؟
يقال إن الشخص هو السياسة. ومن يعرف بايدن وفريق عمله الذي نواته رون كلاين، وأنطوني بلينكن، وتوم دونيلون، وجولي سميث، وستيفن فيلدمان، وجاك سوليفان وبروس ريد يدرك كيف ستكون الاستراتيجية الأميركية، وكيف تدار السياسة الخارجية بقوة الدبلوماسية والاقتصاد والخيارات العسكرية الدقيقة والتحالفات والمؤسسات الدولية. من قوانين الحروب أنه لا خطة عسكرية طُبقت على الأرض كما رُسمت على الورق. وتنفيذ السياسة المرسومة في عالم معقد ومتغير ليس خارج هذه القوانين.