الحريري لعون: لا ضرورة للتحقيق الجنائي
اذا صحّ – وهو صحيح – قول الرئيس سعد الحريري للرئيس ميشال عون في اجتماعهما الاخير ان من الضروري «ايجاد حل» للتحقيق الجنائي، في اشارة صريحة الى صرف النظر عنه لئلا يضرّ بأحد، لن يكون تأليف الحكومة الا على صورة مآل التحقيق الجنائي: لا تضر بأحد او لا تكون
حتى ذلك الوقت، ينتقل لبنان من البراد الى الفرن. بعد مضي اكثر من ثلاثة اشهر من الانتظار، منذ انفجار مرفأ بيروت واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب، لم يعد في حسبان البعض المطلع سوى توقّع الاشهر الصعبة. شهران هما الاصعب حتى 20 كانون الثاني، سيكونان جزءا من الاشهر الستة الصعبة التالية، الى ان تتضح المرحلة الاقليمية الجديدة.
لم يعد بين ايدي المسؤولين اي ادلة على انفراج، او حلول قصيرة وشيكة، او آمال حتى. في ظل الضائقة الاقتصادية والمعيشية والنقدية المتفاقمة، والانسداد السياسي، تحضر التحولات الاقليمية السريعة كي تعيد الداخل الى الوراء اكثر من اي وقت مضى، مع مزيد من التعقيد والتصعيد في آن. الرئيس المكلف سعد الحريري ينتظر بدوره كي يعرف اي حكومة يؤلف، في معزل عن اللهو الدائر حالياً. حزب الله هو الآخر ينتظر مسار الجرف الذي يقوده التطبيع في المنطقة. كلاهما يستفيد من تشدده الى حين، على صورة التشدد الذي يطبع النزاعات الاقليمية. لذا لا احد يتحدث عن حكومة قريبة، وليس لدى اي من هذين الفريقين شكوك في ان اي فرصة لتأليف حكومة جديدة ستكون جزءاً لا يتجزأ من التحولات الاقليمية.
الى ذلك الوقت، كل ما يدور من حول التأليف لا جدوى منه او مغزى. فقد مرجعية المبادرة الفرنسية المُعوَّل عليها، واضحى الآن تحت سيف التهديدات والعقوبات الاميركية.
اما ما يفعله افرقاء الداخل، فليس سوى:
1 – بانقضاء شهر على تكليف الحريري الذي كان جزءاً لا يتجزأ من الاشهر الثلاثة السابقة منذ تكليف السفير مصطفى اديب واعتذاره، باتت لعبة التجاذب المعلن بينه والنائب جبران باسيل في صلب مشكلة تعذر تأليف الحكومة. كأن احدهما قادر – او يتصور – ان في وسعه طرد الآخر من معادلة السلطة. شأن ما قادتهما التسوية التي ابرماها عام 2016 كي تدير الحكم طوال ثلاث سنوات قبل ان تنفجر في تشرين الاول 2019، يقود خلافهما الحالي الى الانهيار. كلاهما يحمّل الآخر مسؤولية ما وصلت اليه الحال والمأزق الذي تتخبّط فيه، في وقت يتساويان في تحمّل المسؤولية تلك.
2 – مذ طرح الحريري نفسه رئيساً مكلفاً منقذاً، وقع في فخ سيصعب عليه الخروج منه. تبنى المبادرة الفرنسية، وعمل عكسها. استجاب شروط الثنائي الشيعي ووليد جنبلاط في مرحلة اولى، ثم ذهب الى رئيس الجمهورية ميشال عون حاملاً مسودة حكومة خالية من اسماء الوزراء الشيعة والوزير الدرزي، وراح يفاوضه على ثلثي الحصة المسيحية بعد اقتطاع ثلث اول منها لسليمان فرنجيه والحزب السوري القومي الاجتماعي وله هو بالذات، على ان يكون شريكاً في الثلثين المتبقيين تسمية او موافقة على التسمية. لم تقل المبادرة الفرنسية بشيء من ذلك، بل كان الرئيس المكلف – قبل ان يُكلف – احد الجالسين الى طاولة قصر الصنوبر الذين أنّبهم الرئيس ايمانويل ماكرون وعناهم بالدعوة الى حكومة لا احزاب فيها.
بطريقة سيئة الاقتباس وعديمة النضوج عما طمح اليه والده الرئيس رفيق الحريري في التسعينات لتأليف حكوماته، في وقت كان قادراً على ان يفعل، اعطى الحريري الابن عون وباسيل الحجة الكافية لوقف مسار التأليف برمته. يحدث ذلك من غير ان يجد الرئيس المكلف حليفاً مسيحياً الى جانبه، وهو يخوض معركة مواجهة رئيس الجمهورية ورئيس الكتلة المسيحية الاكبر والكتلة الاكبر في البرلمان: لا حزب القوات اللبنانية معه، ولا حزب الكتائب، ولا بكركي التي لا تتوقف عن انتقادها القاسي لتأليف الحكومة من غير استثنائها الرئيس المكلف.
3 – مقدار ما يصعب على الحريري تأليف حكومة على غرار مقاربته الحالية وشروطه الملازمة لها، يصعب عليه الاعتذار عن عدم تأليفها – وإن هو لا يريده في الاصل – لاكثر من سبب:
اولها، لم يعد يتصوّر نفسه خارج السرايا مع انه لا يزال حتى الآن كرئيس مكلف خارج ابوابها، ولا يعثر على حتمية الشرعية السنّية الفعلية الا من خلالها بعدما بات الشارع السنّي موزّع الولاءات. ببساطة ليس الحريري سوى اقوى الزعماء السنّة الضعفاء.
ثانيها، مقدرته الضعيفة على ادارة معركة ما بعد الاعتذار في الشارع السنّي الذي لا يسعه تقبّل ما فعله عام 2011، عندما حرد على اثر خلافة الرئيس نجيب ميقاتي له على رأس الحكومة، فغادر البلاد طوال اربع سنوات ونصف سنة ولم يعد الا عام 2015. بذلك لا يصلح لأن يقيم في صورة والده كي يقود معارضة من خارج السلطة.
ثالثها، لعلها مفارقة المفارقات انه بات يحتمي بالثنائي الشيعي. عند الغرب المناوىء انه يحتمي بحزب الله الذي – وإن لم يسمّه – يمثّل ضمان ترؤسه الحكومة. ليس خافياً ان الحريري منذ عام 2008، ما قبل وصوله الى السرايا للمرة الاولى السنة التالية، راهن على تطبيع علاقته بحزب الله. من السهولة بمكان العثور على اسباب شتى لهذا التطبيع، ليس آخرها انضمامه الى الحزب في خيار انتخاب عون رئيساً من اجل العودة الى السرايا. يعرف ايضاً انه لا يجد نفسه رئيساً لحكومة لا يوافق عليها الثنائي الشيعي، وخصوصاً حزب الله، في وقت لم تتوقف يومياً الاشارات المباشرة وبالوساطة اليه من الاميركيين برفض حكومة يحضر فيها الحزب تحت اي مسمّى. على طرف نقيض منه، فإن العلامة النافرة لحزب الله منذ اليوم الاول لتكليف الحريري، رفضه استبعاد اي دور له في التأليف او المشاركة من قريب او بعيد. الاكثر وضوحاً لدى الثنائي انه هو الذي يأتي بوزير المال، لا الحريري ولا الفرنسيون، رغم معرفته بتجميد الاميركيين مساعدة 40 مليون دولار لوزارة الصحة لأن على رأسها قريب من الحزب هو الوزير حمد حسن.
رابعها، ان احداً لا يصدّق استثناء الحريري نفسه من الطبقة السياسية التي يريد حكومته ان تكون عدواً لها، كي تجري اصلاحات بنيوية تنهي نفوذ الطبقة تلك في الدولة. على الاقل على نحو ما تنادي به المبادرة الفرنسية. يقع الحريري في صلب مسؤوليتين تدرّجتا في الوصول الى الانهيار الحالي:
اولى عندما كان على رأس الغالبية النيابية عام 2005 ممسكاً بقضية هي اغتيال والده، فأفضت الى استئثار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بالحكم وكل ما ترتب عليه من اهدار. امتلك الحريري حينذاك كل عدّة المواجهة مع حزب الله: الثروة الوفيرة، والشعبية الصاعدة بعد اغتيال الاب، والاكثرية النيابية، والشارع السنّي، والاعلام، والتحالفات الاقليمية والدولية، وفوق ذلك كله الظهير القوي الذي هو السعودية.
ثم ثانية عام 2008 مع ابرامه اولى تسوياته مع الحزب بعد مصالحة الدوحة، على اثر احداث 7 ايار. خلالها كان لا يزال بين يديه ما تبقى من قضية اغتيال والده قبل تخليه عنها مرتين بعد صدور القرار الاتهامي ثم بعد صدور حكم المحكمة الدولية. اختار حزب الله على القضية تلك كي يظل واقفاً على ابواب السرايا الحكومية. في ظل تنامي نفوذ حزب الله في الداخل منذ أحداث أيار عام 2008، وصل الحريري الى رئاسة الحكومة ثلاث مرات بفضل هذه الحليف المخفي والرئيس نبيه برّي، وهو الآن يتوقع المرة الرابعة خالي الوفاض تماماً من كل عدّة الشغل الثمينة تلك.
يتعامل الثنائي الشيعي معه على انه اكتشافه المفيد الذي يحتاج الى ضعفه في المرحلة الحالية، اكثر منه الحليف الذي لا يعوّل عليه.