خطاب رئيس الجمهورية: هل قرّر فعلاً التغيير؟
رضوان السيد -أساس ميديا
في خطابه في عيد الاستقلال، استخدم رئيس الجمهورية أسلوباً جديداً في مواجهة الأزمة العميقة التي يعاني منها لبنان، وتُهدّده وجودياً. في الواقع، تبّنى فخامة الرئيس كلّ أطروحاتنا، نحن الذين نعتبر أنفسنا معارضين للطبقة السياسية الحاكمة. كاد الرئيس يقول بمقولة الثوار: كلن يعني كلن! وربما تردَّد في الوصول إلى ذلك خشية الظنّ أنه يُدخل الزعيم المظلوم ضمن الكلّ باعتباره “بيّ الكل” وصار كارهاً للكل!
سرد فخامة الرئيس كلّ مصائب لبنان ومشكلاته، وقال إنّ لبنان اليوم أسير منظومة الفساد وعدم المحاسبة، والتي تتستّر بالطائفية والمذهبية وتتضامن فيما بينها. وكانت مآخذه الأشدّ على ثلاثة أفرقاء:
– رئيس الحكومة المكلَّف لأنه لا يقدّم تشكليلةً تُراعي المواصفات والأعراف والمعايير الواحدة، رغم شدة حاجة لبنان لحكومةٍ فاعلة ومتوازنة وقوية. فالرئيس المكلف بدوره في نظر فخامة الرئيس يتستّر أيضاً بالمبادرات الإنقاذية.
– المعارضين للتحقيق أو التدقيق الجنائي. الذين اتهمهم بكل التهم الممكنة وغير الممكنة. وهو لم يذكرهم بالأسماء بحيث بدا المذنبون أفرقاء كثيرين، بينما هم ينحصرون في الواقع بحاكم المصرف المركزي، وجماعة الرئيس بري وآخرين من زعماء الطوائف. والطريف أنّ الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام كان قد ظهر بعد طول توارٍ وأيّد التحقيق الجنائي! فما بقي في الميدان غير حدَيدان، اثنين مستعصيين على طهارة الرئيس ونزاهته ولوعته.
– القضاء العدلي اللبناني الذي تأخر كثيراً في إيصال التحقيق بجريمة المرفأ إلى خواتيمه ونتائجه. وقد قال الرئيس ذلك آسِفاً بسبب احترامه الشديد (كما هو معروفٌ عنه من آماد) لاستقلالية القضاء!
بدا رئيس الجمهورية في خطابه عشية عيد الاستقلال السابع والسبعين للجمهورية المعذَّبة شديد السخط والخيبة معاً. وقد يكون محقاً فيما آل إليه مزاجه ومزاج مَنْ حوله بسبب العقوبات الأميركية القاتلة على صهره جبران باسيل، وبسبب اعتذار الشركة المكلَّفة بالتحقيق الجنائي قبل يومين من خطاب الرئيس.
وإلى ذلك، فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر على الرئيس “خيبته” الناجمة عن الفشل في ملاقاة التوقعات الكبرى التي رسمها لنفسه وجمهوره ليس منذ العام 2016 فقط، بل ومنذ العام 1989 ثم العام 2005 والعام 2006. بل الذي حدث هو العكس، وانهار كلّ شيء على اللبنانيين وفي العهد القوي.
التوقّعات والخطط المعلنة تتلخّص في ثلاثة أمور:
– رفع “المظالم” عن المسيحيين التي أحدثها العهد السوري والسيطرة الحريرية.
– تعديل الطائف أو إزالته لكي تستعيد رئاسة الجمهورية وهجها وسطوتها وصلاحياتها.
– تغيير النظام المالي والإداري في الدولة باعتبار أنّ كلَّ السنوات السابقة على رئاسة العماد كانت سنوات فساد غير مشروع، وقد ذكر العونيون ذلك في كتابهم: الإبراء المستحيل، في العام 2010.
العماد عون استقوى لتحقيق ذلك كلّه بتفاهم مار مخايل عام 2006 مع الإمام المعصوم، واستناداً إلى أيديولوجيا “تحالف الأقليات”.
ومضى الأمر منذ اتفاق الدوحة على ما يُرام: الاستيلاء على معظم حصة المسيحيين في الحكومة، ثم كلها ومع حصة لرئيس الجمهورية، ودخول وزارتي الطاقة والاتصالات من باب تلك الحصة، وإضعاف سعد الحريري الفائز في انتخابات العام 2009، إلى حدّ إسقاط حكومته بالثلث المعطِّل عام 2011، والتقارب مع القوات لإيصاله إلى الرئاسة من طريق المحاصصة في الحكومة وفي الوظائف، وفي الترشّح للانتخابات الرئاسية ثم استبعادها بعد التمكّن. وإفراد سعد الحريري بالتهجّم عليه وحده إلى أن خضع ودعم بالصوت الإسلامي وصول الجنرال المرشّح من الحزب، والمعتبر أنّ السنة كلهم دواعش – دعَمه لتسنُّم منصب رئاسة الجمهورية. فإلى ملء التركيبة الإدارية والقضائية والدبلوماسية والعسكرية للنظام بالمحاسيب، فإلى حرب الجرود، فإلى قانون الانتخابات والانتخابات عام 2018. وخلال ذلك، تصاعُد الدَين العام إلى آفاقٍ وأرقامٍ أسطورية، وهو اليوم في حدود المائة مليار دولار، نصفها بسبب الإنفاق على الكهرباء التي يسيطر العونيون على وزارتها منذ العام 2008، وبسبب انعدام النمو، والاختلال الهائل في ميزان المدفوعات، وامتناع لبنان لأول مرة في تاريخه المالي عن دفع فوائد ديونه الخارجية!
وهكذا، ومع أنه وبحسب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب: “ما مرَّ عامٌ إلاّ وفي العراق جوع”،! ففي كلّ ذكرى للاستقلال في الوطن الجائع، حتى 22 تشرين الثاني عام 2019 كان الرئيس العماد أو الجنرال الرئيس يتسنّم المنصّة ليتحدّث عن الإصلاحات والازدهار في عهده، وليضع المسؤولية في كلّ المشكلات المتراكمة (ومن ذلك إقفال المصارف يومها وتوقفها عن الدفع للمودعين وتدفق الشباب ثائرين إلى شوارع كلّ لبنان) على عواتق فساد الثلاثين عاماً الحريرية الطابع! وما كفى المواطنين ولا شفاهم، تعلُّل رئيسهم بالفساد السابق، بل انضمّ إليه في ذلك رئيس الحكومة الذي اختاره هو وحزب الله واسمه إن كان المواطنون قد نسوه: حسّان دياب، الذي زعم بعد مرور مائة يومٍ على تشكيل حكومته العتيدة أنه حقّق 97% من أهداف الحكومة الشامخة!
بعد هذا كله، فهل خطاب الرئيس في 22 تشرين الثاني 2020 نمطٌ جديدٌ، وإدارةٌ حقّةٌ للتغيير ولو بعد فوات الأوان؟
في المدة الأخيرة، صار معروفاً عن الرئيس قوله المتكرّر: الإرادة شيء، والقدرة شيء آخر. فالصلاحيات لا تسمح، وحتّى قبل انفجار مرفأ بيروت كان يعلم بالمخاطر، ولكنّه حوَّل “الإنذار” إلى المعنيين بالتراتبية المعهودة! إنما تعالوا نتأمّل “إنجازات” الرئيس في ضوء الأهداف الثلاثة المعلنة لنفسه وعهده:
– تغيير الدستور أو تعديله، ما نجح في ذلك. لكنّ مستشاره وزير العدل السابق جريصاتي سمعتُه يقول في محاضرة باليسوعية عام 2018 فيما أظنّ: “نحن نعمل، ومن حقنا أن نعدّل الدستور بالممارسة”.! وقد غصّ عهده بالمخالفات الدستورية التي لم يحاسبه أو يسأله عنها أحد. وقد أحصاها خبيرٌ دستوريٌّ معتبر بما يزيد على المائة والأربعين مخالفة، ومنها أخيراً ما يجري في عملية تشكيل حكومة المهمّة أو الإنقاذ. لقد فعل الرئيس كلّ ما أراد دون أن يأبه لتدقيقات الدستوريين. إنما ما الذي أفاد النظام أو العهد القوي من كلّ ذلك؟ الدستور هو مناط التوازن والشرعية، فهل الافتخار بمخالفته أو المطالبة العلنية بتعديله في خطاب قبل شهرٍ ونيف، دليل على الحكمة والتوازن والسياسة الإصلاحية؟ وهل كان الحال لينصلح لو أنّ مجلس النواب – وهو وحلفاؤه أكثرية فيه منذ العام 2018 – اجتمع وقرّر تعديل صلاحيات الرئيس كما يبتغي الجنرال؟!
– التعيينات الإدارية والقضائية والدبلوماسية والعسكرية، والوزارات التي يتولاها مسيحيون عونيون، وهي نصف الحكومات وأكثر. كلّ ذلك كان بين أهداف السيطرة الرئاسية، ولصالح المسيحيين العونيين بالتحديد: فأين هو الرشْد والإصلاح والشفافية فيها؟ ومَثَل الكهرباء فادحٌ وفاضحٌ وقادح. وهو الأفظع بالطبع، لكنْ هناك مئات المخالفات الأُخرى للدستور وللنظام الإداري للدولة، وللكفاءة، وللإنصاف. فهل هذه الأفاعيل أفعال عاجز وضئيل الصلاحيات، أم أنّ جبران باسيل هو وحده المسؤول عنها؟ ثم إنّ الرئيس يكاد يحضر كلّ جلسات مجلس الوزراء وبخاصة الجلسات التي فيها تعيينات، وما من تعيينٍ صغُر أو كبُر إلاّ وهو يُصرُّ عليه، وكم عطّل من تعيينات لأنه لم يوافق عليها، ولو كانت لغير المسيحيين، طبعاً باستثناء التعيينات التي يريدها الثنائي الشيعي!
– ويأخذ الرئيس (بليونةٍ ومعاتبةٍ) على القضاء العدلي التأخر في تحقيقات المرفأ لأربعة أشهر: فهل ترك فخامته للقضاء “المستقل” حالاً أو مآلاً؟ وأين صارت تعيينات مجلس القضاء الأعلى؟ وإيقافه لها تعجيزٌ للقضاء، ومخالفة دستورية هي الثانية والعشرون بعد المائة في عهده القوي. نعم، ما عرف القضاء اللبناني عهداً أكثر جَوراً على تركيبة القضاء وعمله من هذا العهد. الرئيس يستبطئ محاسبة مرتكبي المرفأ: أفلا يعلم أنّ أحد كبار المتهمين أو كبيرهم عونيٌّ مشهورٌ يحتمي حتى الآن بهم؟! ولو أنه احترم استقلالية القضاء وحماها، أما كان بوسعه الآن اللجوء إليه لملاحقة المنظومة الفاسدة أو بعضها على الأقلّ؟!
– ولنُضِفْ لذلك السياسة الخارجية للبنان، وأين صارت في عهده وعهد الوزير باسيل في وزارة الخارجية. لبنان في عزلةٍ عربيةٍ ودوليةٍ هائلة. وبالطبع، ليس الرئيس وحده المسؤول، بل أيضاً وبالأولوية حزب الإمام المعصوم. إنما قارِنْ وكنْ منصفاً مرةً يا فخامة الرئيس: ما نال لبنان من إسرائيل عام 2006 أكبر مما نال مرفأ بيروت، فلماذا استطاع لبنان يومها إنجاز إعادة الإعمار في عامٍ ونيف، وساعده في ذلك العرب والدوليون، ولماذا ما أمكن شيء من ذلك بعد انفجار4 آب 2020؟ والجواب واضح: لأنه في العام 2006، كان هناك فاصلٌ واضحٌ بين الميليشيا والدولة. وفي عهدك، تصدّعت الدولة، وزالت لصالح سياسات الحزب ومحوره!
طيب يا فخامة الرئيس: أنت تعتقد أنك وضعت برّي في “خانة اليك”، والأميركان يعتقدون أنهم وضعوا باسيل في خانة أفظع. ونحن نعتقد كمواطنين أننا وقعنا وحدنا في الشَرَك أو الأسْر الذي تتحدّث عنه، وأنتم تسدُّون علينا بحضوركم ونصبكم للأشراك سُبُل الخروج! بشار الأسد سجن نصف السوريين أو هجَّرهم، وأنتم في المنظومة اعتقلتم جميع اللبنانيين بلا أملٍ في إطلاق السراح إلاّ إلى المهجر!
ومرةً أُخرى: هل خطاب رئيس الجمهورية نمطٌ جديدٌ لسياساتٍ جديدةٍ ولو بعد فوات الأوان؟
بالطبع لا.
فقد اعتاد على وضع كلّ شيء على ظهر الحريرية أو على حد “اضطرار” صهره لوراثة “السنية السياسية” كما أتحفنا منذ زمن ليس ببعيد. وعلى “ضعف” صلاحيات الرئيس. وهو الآن وبعد الانهيار الوطني الكامل، يضع المسؤولية على عاتق المنظومة كلها، وهو ويا للعجب يعتبر نفسه خارجها!
فخامة الرئيس جزءٌ أساسيٌّ ومن موقع متقدّم في المنظومة التي يدينها المواطنون منذ ما قبل ثورة 17 تشرين. وليتذكّر أنّ المتظاهرين الأوائل المسالمين، لكنْ المرتفعة أصواتهم عندما كانوا يهاجمون الرئيس نبيه بري، كانوا يهاجمون أيضاً جبران باسيل وبشكلٍ أفظع. وكم تجمّعوا محتجين أمام شركة الكهرباء، وأمام وزارة العدل، وأمام وزارة الخارجية، وكم حاولوا اقتحام القصر الرئاسي قبل مجلس النواب وبعده!
الاعتراف عقيدةٌ أساسيةٌ للتوبة عند الكاثوليك. لكنّها توبة أفراد، ولا أحسب أنّ الكنيسة قادرة أو جاهزة لاستقبالكم أفراداً مثل جبران، أو جماعات مثل التيار الوطني الحرّ أو الثُنائي العظيم. وإن لم تصدّقوني فاسألوا البطريرك الراعي. أنتم كما قال الفيلسوف نيتشه: “ما وراء الخير والشر!” والعياذ بالله: “كلن يعني كلن”، وبدون الحاجة لتحقيق جنائي جزئي وانتقائي، بل حاجةٌ ضروريةٌ لتحقيق قضائي دولي!