ليس الخلاف بين وزيرة العدل ماري كلود نجم والنائب إبراهيم كنعان مجرد خلاف شخصي حول تحميل نجم له المسؤولية كما غيره بعرقلة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان عبر وضع السرية المصرفية كعائق أمام تنفيذه. ثمة ما يتجاوز القفز بين الردود والردود المضادة. منذ بدء إعداد الخطة المالية للدولة اللبنانية وصياغة تفاصيلها، ولا سيما طريق توزيع الخسائر ما بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، بات الحديث عن دور للأحزاب محدوداً. بانت هشاشة هذه الأحزاب المخترقة بغالبيتها من جمعية المصارف اللبنانية، فلم يعد النواب والوزراء حزبيين يلتزمون بأجندات أحزابهم، بل انخرطوا بطاعة تامة جنوداً في معسكر المصارف؛ هكذا ظهر حزب المصرف.
معركة التغريدات الأخيرة حول التدقيق الجنائي بين رئيس لجنة المال النيابية، أي كنعان وهو نائب في تكتل التغيير والإصلاح، ووزيرة العدل المحسوبة على الرئيس عون يدخل حكماً في إطار الحرب الدائرة بين حزب المصارف والحزب المناهض لهم المتمثل بمعدّي خطة التعافي المالي الحكومية. سريعاً، انكشف الأمر مع دخول أعضاء آخرين في هذا النادي لمؤازرة كنعان حول عدم إمكانية إجراء تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان. عجز جيش مصرف لبنان وشركائه عن كتم غيظه هو الذي أحبط خطة التعافي المالي الحكومية بحجة الدفاع عن المودعين، بينما كان يدافع عن أرباح المصارف وامتيازاتها على حساب أموال الناس المسروقة. وجد هؤلاء فرصة جديدة لتقديم فروض الطاعة لكهنة المعبد. انضم أعضاء في لجنة المال النيابية التي دعتها نجم بـ«لجنة الانهيار المالي» الى رئيسها، للتبجّح مجدداً بإسقاط الخطة المالية مقابل تعويم خطة جمعية المصارف الراغبة في السطو على أملاك الدولة والناس.
من هذا المنطلق، غرّد النائب العوني آلان عون قائلاً: «البعض يلوم لجنة المال لأنها تصدّت لخطة «الحزام الناسف» المالية للحكومة المستقيلة…. بمعزل عن السجال المالي ــــ الاقتصادي المشروع، كان يجدر بهم التنويه بأن لجنة نيابية عابرة للكتل لم تبصم كالعادة على السياسات الحكومية المعلّبة، بل ردّت الاعتبار للعمل الرقابي لمجلس النواب». مثله فعل زميله في التكتل زياد أسود. وانضم إليهم النائب في كتلة «الوسط المستقل» نقولا نحاس، وهو أيضاً أحد أبرز الناطقين باسم حزب المصرف.
لاحقاً، دخل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على خط الخلاف، ليس لإخماده أو توضيح وجهة نظر التيار تجاه ما يعتبره هو نفسه ورئيس الجمهورية ميشال عون أولوية وطنية، بل لإضفاء المزيد من الغموض حول هذا الملف. إذ كتب باسيل على تويتر أن «التدقيق الجنائي واجب وطني وأولوية مطلقة وباب للتدقيق بكل الإنفاق العام. ويظهّر الفجوة المالية ويبيّن الارتكابات ويكشف مصير الأموال المنهوبة والموهوبة والمحوّلة»، مضيفا أن «على الحكومة فرض التدقيق بقوة القوانين الموجودة، وعلى مجلس النواب الدعم والتحصين، وعلى مصرف لبنان الاستجابة الفورية تحت ضغط حقوق الناس. التيار واحد وحاسم حول هذا المطلب، وكل كلام عن تقديم قانون إضافي، إذا لزم وإذا تأمّن إقراره، هو من باب الحرص على إتمام التحقيق وليس عرقلته».
كلام باسيل الذي لا يحمل حقاً ولا باطلاً غير مفاجئ. فقد سبق لرئيس التيار أن استخدم الطريقة نفسها عندما كان المستشار المالي لرئيس الجمهورية شربل قرداحي يشارك في الوفد المفاوض مع صندوق النقد، بينما كان كنعان يترأس لجنة «تقصي الحقائق» لإطاحة الخطة المالية إياها بهدف تغليب كفة المصارف ومصالحها. إنما اللافت هنا، أن كنعان في مختلف هذه الأحداث، سخّر نفسه قائداً لمشروع الدفاع عن المصارف وتبييض صفحتها، سابقاً في ذلك زملاءه: إيلي الفرزلي وياسين جابر ونقولا نحاس. وحرص النائب المتني، دائماً، على إسقاط مشاريع كل من يقترب منها، مخرجاً في كل مرة أرنباً مختلفاً. فقبيل عام ونصف عام، في 4 نيسان 2019 تحديداً، طلب وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش «توضيحات عن حسابات مصرف لبنان والعائد الاقتصادي لعملياته»، ليردّ كنعان آنذاك بأن «موقف بطيش ــــ زميله في تكتل لبنان القوي – «رأي شخصي» غير مُلزم للتكتل». وفي آب 2019، جمع الرئيس عون في بيت الدين، لجنة اقتصادية ضمّت كلّاً من بطيش وكنعان وغازي وزني وعادل أفيوني وشربل قرداحي وروي بدارو وعبد الحليم فضل الله ومازن سويد، لتحضير ورقة اقتصادية سميت لاحقاً «ورقة بعبدا». في أول اجتماع لكنعان مع الخبراء، حاول الأخير «تفخيخه» و«تسذيجه»، الأمر الذي أزعج رئيس الجمهورية، فنهر كنعان أمام الحاضرين قبل أن يبعده عن الاجتماعات. لكن ثمة سؤال رئيسي وسط كل ما يحصل، لماذا يسكت عون وباسيل عن تلك الارتكابات إذا كانت تتعارض مع توجهاتهما؟
يشير مقربون من باسيل الى أنه «يعضّ على الجرح» منعاً لانشقاقات حزبية في غير وقتها. فحديث رئيس التيار خلال مؤتمره يوم الأحد الماضي للرد على العقوبات الأميركية عن «خائنين»، يشير إلى خطورة كبيرة لناحية انحيازات بعض النواب والمسؤولين في الحزب الذين يعملون منذ زمن بالاتجاه المعاكس لمصلحة التيار. وما «السير بين الألغام يوم أمس في تغريدته سوى لتفادي مشكلة أكبر».
في المقابل، ثمة من يرى أن عدم التناغم في الملفات في التيار نفسه، مقصود لأنه يخدم باسيل سياسياً ويربحه من الجهتين، علماً بأن وزيرة العدل ليست حزبية ولا أتت بتسمية من باسيل، بل باقتراح من الرئيس عون. وبالنسبة إلى نجم، «لو لم يصفها كنعان بـ«وزيرة اللاعدل» لما ردّت عليه. المشكلة في الإيحاء للناس بأن التدقيق الجنائي غير ممكن من دون تعديل القوانين». لذلك تكرر، بالرغم من عدم معارضتها لأي إجراء تشريعي يؤكد مبدأ التدقيق في حسابات مصرف لبنان، أن «العقد بين الدولة وشركة «ألفاريز اند مارسال» في صيغته الحالية، قابل للتنفيذ، ولا يتعارض مع القوانين الحالية». ولا ترى السجال الراهن «قانونياً، بل يتعلق بدعم تمرّد حاكم مصرف لبنان الذي وضع نفسه في مواجهة قرار مجلس الوزراء الملزم له». وتذكّر بأن القرار اتخذ لأن «من حق الناس أن يعرفوا أين ذهبت أموالهم».
ما سبق يعيد الكرة الى البداية، أي الحرب الدائرة بين حزب المصرف وبين من لم يقدّموا أوراق اعتمادهم له. لكن بدا لافتاً خفض كنعان من سقف تصريحاته في حديثه الى «أو تي في» يوم أمس عبر القول بأن «التدقيق الجنائي أكثر من واجب، وإذا كان العقد مع «ألفاريز» يسمح بذلك فعظيم، لكن إذا اقتضى الأمر تعديلاً لقانون النقد والتسليف فليكن ذلك، والسجال غير مفهوم في هذا السياق».

من جانب آخر، سرت علامات استفهام حول إعلان كنعان بتاريخ ٢٨ تشرين الأول الماضي عن مبادرة تشريعية عبارة عن اقتراح قانون يسمح بإنجاز التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان من دون أن يقدم التكتل اقتراح القانون حتى الساعة. يومها، سأل كنعان متبنّياً وجهة نظر سلامة: «أما كان يفترض بمن وقّع العقد، أكان حكومياً أم من خلال جيش المستشارين، أن يقرأ القوانين اللبنانية ويتنبّه لها؟». لكنه عاد ليوضح في حديثه التلفزيوني أمس أن «تحضير القانون أتى بناءً على طلب رئيس الجمهورية (…) لكن تريثنا بتقديمه الى حين التأكد من أن الحكومة غير قادرة على إتمام التدقيق بدون هذا القانون».

في سياق متصل، طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب من المحامي ناجي البستاني، الذي شارك في الاجتماع الذي عقد في السرايا في 5 تشرين الثاني الحالي مع ممثل «ألفاريز» وحاكم مصرف لبنان، بحضور الوزراء: زينة عكر، غازي وزني ونجم، إعداد صيغة لمشروع قانون يلزم مصرف لبنان بالتعاون مع الشركة المعنية بالتدقيق الجنائي، بما يتخطى حجّته بأن القوانين اللبنانية لا تسمح بذلك. وقد علمت «الأخبار» بأن رئاسة مجلس الوزراء تسلّمت الصيغة من البستاني التي نصّت على الآتي: «بصورة استثنائية ولفترة لا تتعدى ثمانية عشر شهراً، لا تطبق أحكام قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف على العقد الذي تبرمه وزارة المالية مع شركة التدقيق الجنائي». تتطلب ولادة هذا المشروع اجتماعاً لمجلس الوزراء، الأمر الذي لم يحصل طيلة الفترة الماضية، وبالرغم من أن البستاني، كما غيره من القانونيين، أكد أن ذلك ممكن بالنظر إلى القاعدة القانونية التي تشير إلى أن «الضرورات تبيح المحظورات». غير أنه لم يتم القيام بأي إجراء حتى اليوم، علماً بأن مصادر معنية سبق أن أشارت إلى أن اجتماعاً كهذا سيكون محرجاً لرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، اللتين وقّعتا على عدد كبير من المراسيم الاستثنائية بحجة عدم انعقاد مجلس الوزراء في فترة تصريف الأعمال.