القوّات اللبنانيّة في “عزلة سياسية”؟
“ليبانون ديبايت” – بولس عيسى
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أن حزب “القوّات اللبنانيّة” أصبح من دون حليف وخارج أي تحالف بحكم انفراط عقد “14 آذار” في ظل التباينات التي ظهرت مع “تيار المستقبل”، والفتور النسبي في العلاقة مع “الحزب التقدمي الاشتراكي” وغياب أي علاقة مع حزب “الكتائب اللبنانيّة”، فضلا عن أنه أخرج نفسه من لعبة تأليف الحكومة. فهل كل ما تقدّم يعني أن “القوات اللبنانيّة” دخلت في عزلة سياسيّة وما انعكاس ذلك على دورها وحضورها الوطني؟ وهل نحن أمام احتمال تكرار مشهد تسعينيات القرن الماضي؟
للإجابة بشكل واضح على هذه الأسئلة المشروعة ينبغي بدايةً توفير الجواب السياسي الشافي والوافي ومن ثم الذهاب الى قراءة الواقع السياسي في البلاد للخروج بالخلاصة المنطقية المرجوّة.
أولاً، لقد سقط سهوا عن بال المروّجين لفكرة عزلة “القوّات” السياسيّة، أو عن سابق تصوّر وتصميم، أن البلاد تعيش اليوم أزمة اقتصادية – ماليّة وليس سياسيّة بالرغم من أن هناك فريقاً سياسياً يحاول خطف البلاد، علماً ان الاختلاف هائل بين طبيعة كل من الأزمتين والواقع السياسي الناجم عنهما.
فلو كان الصراع من طبيعة سياسيّة وهناك جبهة متراصة تعمل على تنفيذ مشروع سياسي ما أو تسعى للإطباق على البلاد والسيطرة سياسياً عليها فيما تقف “القوّات” منفردة خارجها وتتعرض لهجمات منهجية منها، لكان يمكن الكلام على إعادة مشهد التسعينيات وعزلة سياسيّة وتطويق ومساع بهدف القضاء على “القوّات”، إلا أن واقع الحال اليوم مغاير تماماً.
إن الأزمة التي تعصف بالبلاد اليوم اقتصادية – ماليّة بامتياز بمعزل عن مسبباتها السياسيّة التي أدت إلى انهيار غير مسبوق، لذا فإن أي اصطفاف حاصل اليوم قائم على قاعدة إخراج لبنان من أزمته وفرملة الانهيار، وتتنافس الأقطاب على هوية الجهة القادرة على إعادة لبنان إلى شاطئ الأمان.
انطلاقاً من هنا، يمكن الجزم بأن التحدي الأساسي للقوى السياسيّة في البلاد على اختلاف أحزابها كانت أو تنظيمات أو من يطلقون على أنفسهم صفة “المستقلين” أو مجموعات الثورة ومنتدياتها، هو مواجهة الأزمة الماليّة وليس إسقاط هذا الفريق أو عزل هذا أو ذاك. ولكن هذا لا يعني أبداً تبدد الأفكار الإلغائيّة من أذهان البعض فهي أفكار ترتبط لديهم بالهوى والهوية ولكنها بعيدة عن التطبيق في الوقت الراهن وتبقى أضغاث أحلام فحسب في مخيّلة أصحابها.
أضف إلى ذلك، عندما أسقطت حكومة الرئيس الحريري في مطلع العام 2011 بانقلاب صُوِّر على أنه مؤسساتي دستوري، شكّل هذا الأمر ضربة قويّة لجبهة “14 آذار” وخشية لدى هذا الفريق من امساك فريق “8 آذار” بمفاصل البلاد وإعادتها إلى ما قبل الـ2005، إلا أن الصورة مختلفة اليوم تماماً حيث يدعو رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع صراحةً وجهاراً الأكثريّة الحاكمة الى الالتزام بشروط التأليف التي تنتج حكومة قادرة على إخراج لبنان من الأزمة، وهي حكومة الأخصائيين والمستقلين تماماً عن جميع القوى السياسيّة، وإلا فلتحكم هذه الاكثريّة منفردة ولتتحمّل مسؤولية قراراتها وأفعالها وسياساتها وسوء إدارتها للدولة الامر الذي سيودي بالبلاد إلى الهلاك.
إذاً لا خوف من أن يحكم فريق “8 آذار” منفرداً لأن التحدي سيكون لديه مدى قدرته على إخراج لبنان من قاع الهاوية التي رماه فيها بفضل سياساته منذ العام 2011 حتى يومنا هذا، وبطبيعة الحال نحن غير مؤمنين بأنه قادر على القيام بذلك. وبالعودة إلى محاولات اختطاف البلاد فهي ليست محاولات مستجدة وإنما تندرج في اطار مسار مستمر منذ العام 2011، لذا المواجهة مع هذا الفريق مستمرّة على المستويات كافة.
إن أهميّة موقف حزب “القوّات اللبنانيّة” اليوم هو أنه يرفض أن يمنح الغطاء لفريق أوصل لبنان إلى الخراب، ويضع هذا الفريق أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تحمّل مسؤوليّة أفعاله وسياساته وسوء إدارته للدولة منفرداً أمام الله والتاريخ والشعب أو رفع يده عن السلطة ليفسح المجال أمام من يستطيعون إنقاذ الأوضاع للعمل وبذلك اعتراف من ذاك الفريق بالفشل ووهن شعاراته وزيف ادعاءاته علّه يحصل على رأفة الرحمن ورحمة التاريخ. وفي هذا الموقف عمق المواجهة للحفاظ على هويّة البلاد.
انطلاقاً من هنا تكمن أهميّة هذا التموضع لـ”القوّات اللبنانيّة” التي تعتبر أنه في الأزمات الحرجة والصعبة كالتي نمرّ فيها اليوم لا مكان لتدوير الزوايا والتسويف وسياسة “فرك اليدين” وإنما فقط للمواقف الوطنيّة الراديكاليّة المتشدّدة الواضحة والصلبة.
وليس من باب الصدفة أن يلقى هذا التموضع تأييداً شعبياً واسعاً لأن “القوّات اللبنانية” كانت دائما وستبقى حزب الشعب والناس، فهي مرآة لمجتمع تعيش فيه وتعاني مآسيه، وتحمل مطالبه، وهو الذي انتفض في 17 تشرين رافضاً الواقع القائم.
والأدهى هو أنه بعد أكثر من عام على انتفاضة هذا الشعب هناك بعد من لم يفقه أنه لم يعد يريد أنصاف الحلول والتسويات وسياسات الترقيع بل يطالب بحلول جذريّة في ظل الأزمة الكارثيّة التي تعصف بالبلاد وخصوصاً بعد فاجعة 4 آب التي يمكن أن ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانيّة.
انطلاقاً من هنا ترى “القوّات اللبنانيّة” على عكس ما يعتقده البعض وما يحاول البعض الآخر التسويق له أنها في أفضل تموضع وطني لا بل بالعكس تعتبر “القوّات” أنها اليوم عادت إلى قواعدها سالمة إلى جانب الشعب، كونها لم تعد مضطّرة لتحمّل تبعات تحالفات تأخذ منها ولا تعطي البلاد سيادة واستقلالا وحريّة في القرار .
وتتعامل “القوّات” اليوم مع الجميع، باستثناء “حزب الله” طبعاً، “على القطعة” منطلقةً في مقاربتها من المصلحة الوطنيّة والشعبية فعندما تستدعي هذه المصلحة الحاجة للتعاون تقوم “القوّات” بذلك فقط، فيما تجد جميع الأطراف الاخرى نفسها بحاجة للتقاطع مع “القوّات” انطلاقاً من حجمها النيابي والشعبي وصدقيتها الوطنيّة وعلاقاتها الدوليّة، ولا نكشف سرّاً إن قلنا أن أكثر من فريق سياسي يوجّه الرسائل إلى معراب تودّداً وانفتاحاً سعياً إلى حوار ما إلا أن هذه الرسائل لا تلقى تجاوباً من القيادة القواتيّة التي تفضّل في هذه المرحلة أن يكون حليفها الوحيد والاستراتيجي هو أساس تكوينها وعلّة وجودها أي الشعب وتفضّل أن تلتقي عندما تستدعي المصلحة الوطنيّة والشعبيّة مع هذا الفريق أو ذاك.
أما بالنسبة لقراءة الواقع السياسي، فهل يمكن الحديث اليوم مثلاً عن جبهة “8 آذار”؟ وعن احلاف مهمة محتملة؟
الجواب: إن كل الجبهات تفكّكت وكل التحالفات انكفأت وكل القوى في مرحلة خلط أوراق ولا يوجد أي جبهة أو تحالف يعتدّ به ويمكن الحديث عنه.
وحيال كل ذلك ترى “القوّات اللبنانيّة” أنها في أفضل لحظة وطنيّة بالرغم من المأساة التي تعصف بالبلاد وهي منفتحة على الجميع، باستثناء “حزب الله” طبعاً، كي لا تعطي غطاءً لأحد وكي لا تتحمّل وتحمّل الشعب أعباء وكلفة التحالف مع هذا الفريق أو ذاك. كما أن “القوّات” لا ترى نفسها اطلاقاً في موقع العزلة السياسيّة بل وانطلاقاً من حجمها ووزنها وحضورها وتاريخها ومسار نضالها في سبيل الوطن والقضيّة تعمل جاهدةً ومن دون كلل أو ملل على فكّ عزلة الشعب بتحريره من براثن طغمة حاكمة أودت بالبلاد والعباد إلى الإفلاس وبالتالي فك أسر الوطن من مخالب محور الممانعة وإعادته إلى الشرعيتين العربيّة والدوليّة لتنفض بذلك “الجمهوريّة القويّة”، التي تجسد تطلعات اللبنانيين المنتفضين منذ 17 تشرين، غبار الرماد عن أجنحتها وتعود الى رهان القيامة من جديد.