لم تكن تنقص حفلةَ الجنون المحيطة بانتخابات الرئاسة الأميركية، إلّا إيمان دونالد ترامب بأن نضاله القضائي سيعيده رئيساً لولايةٍ ثانية. ولعلّ وزير الخارجية، مايك بومبيو، هو أحسن مَن عبّر عن رفض الاستسلام، حين وعَد بعملية انتقال سلسة نحو ولاية ثانية لترامب. هذا اليقين بالعودة والانتصار لا يبدو بريئاً بالمرّة، وخصوصاً أنه يأتي في موازاة شنّ الإدارة الحالية حملةً انتقامية تستهدف عرقلة خطط الإدارة المقبلة وسياستها الخارجية. في هذا الإطار تحديداً، تجيء جولة بومبيو المرتقبة إلى المنطقة، والتي تشمل دول الخليج وإسرائيل وتركيا، لبحث «جهود ترامب التاريخية لصناعة السلام». جولةٌ تعني أن هؤلاء يعتزمون استئناف نشاطهم من حيث توقّف قبل يوم الانتخابات: دفع قاطرة التطبيع مع الكيان العبري قُدُماً قبل أسابيع قليلة من انتهاء الولاية الرئاسية الأولى لترامب في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، جنباً إلى جنب استكمال حملة الضغوط القصوى على إيران، بعد إعلان الإدارة، أمس، عن حزمة عقوبات جديدة استهدفتها، وتساوقت مع أخرى ضدّ سوريا. تزايُد الإشارات، كما التسريبات، لا يبدو مطمئناً؛ إذ يدلُّ على احتمال إقدام الإدارة الفاقدة صوابها على توجيه ضربة عسكرية تستهدف إحدى دول محور المقاومة، وتعيد خلط الأوراق في المنطقة، قبل أن تُسلِّم مفاتيح البيت الأبيض لخليفتها. وليست إقالة وزير الدفاع، مارك إسبر، واستقالة ثلاثة من قيادات «البنتاغون»، هم: وكلاء وزير الدفاع للشؤون السياسية ولشؤون الأمن ولشؤون الاستخبارات، بحسب موقع «بوليتكو»، بعيدة من هذا السياق.

يرفض البيت الأبيض التعاون مع الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب (أ ف ب )

دستورياً، وبحسب «قانون القوى الحربية» لعام 1973، تبدو هوامش ترامب محدودة؛ فصلاحيات الرئاسة لا تعطيه الحقّ في إعلان الحرب، كون تلك الصلاحيات منوطة بالكونغرس، الجهة الوحيدة المخوّلة ــــ دستورياً ــــ تفويض إعلان الحرب. لكن القانون يستثني حالات معيّنة يمكن الرئيسَ فيها التصرّفُ من تلقاء نفسه؛ إذ يقول النص إن في استطاعته استخدام القوّة في حالة «إعلان الحرب أو عند وجود إذن قانوني محدَّد أو في حالة إعلان طوارئ على المستوى القومي حين تتعرّض الولايات المتحدة أو أراضيها أو قواتها المسلحة لهجوم». منتصف العام الجاري، عطّل الرئيس الأميركي مشروع قانون للكونغرس يحدّ من هامش تحرّكه العسكري ضدّ إيران. نَصَّ المشروع الذي أقرّه الكونغرس بمجلسَيه، في أعقاب اغتيال الجنرال قاسم سليماني، على أنه لا يمكن رئيس الولايات المتحدة إعلان الحرب أو منح الضوء الأخضر لشنّ عملية عسكرية ضدّ الجمهورية الإسلامية، من دون موافقة صريحة من الكونغرس. يعني ذلك أن الصلاحيات لا تزال مثار جدل. وهناك أمثلة كثيرة يمكن الركون إليها، وُجّهت فيها ضربات بأمر من الرئيس ومن دون إخطار الكونغرس: ضربة مطار الشعيرات في عام 2018، وإلقاء أكبر قنبلة «غير نووية» على أفغانستان عام 2017. وهناك أمثلة كثيرة أخرى: باراك أوباما (ليبيا والغارة التي قتلت أسامة بن لادن في باكستان)؛ جورج دبليو بوش (الهجمات الأولية التي أعقبت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر)؛ بيل كلينتون (كوسوفو وهايتي والعراق)؛ جورج بوش الأب (بنما)… أمام ترامب قانون آخر، يسمح للرئيس الأميركي باستخدام القوة مباشرةً: «قانون استخدام القوة للرد على هجمات 11 أيلول/ سبتمبر» الذي صدر في عام 2001 لمحاربة «القاعدة» و»طالبان». استُخدم هذا القانون لقوننة الحرب ضدّ «داعش» والجماعات المرتبطة به في أفريقيا. لكن مشكلته، بحسب تقرير لصحيفة «واشنطن بوست»، أنه لا يشمل إيران، التي لم يتمّ إدراجها ضمن الجهات أو الدول التي تستطيع الولايات المتحدة ممثلةً بالرئيس تنفيذ هجمات ضدّها.المخاوف المحيطة بالعملية الانتقالية، في ظلّ رفض إدارة ترامب الاعتراف بالهزيمة أمام جو بايدن، ازدادت حدّة بعد تصريحات بومبيو، يوم أمس. وعد هذا الأخير بعملية «انتقالية سلسة» نحو ولاية ثانية لرئيسه. وقال: «سنحتسب كل الأصوات»، مؤكداً أن قادة العالم يدركون أنها «عملية قانونية تستغرق وقتاً»، وداعياً العالم إلى أن «يثق تماماً بواقع أن العملية الانتقالية الضرورية لتعمل وزارة الخارجية في شكل فاعل اليوم، وفي شكل فاعل مع الرئيس الذي سيتولى منصبه بعد ظهر العشرين من كانون الثاني/ يناير (2021) ستكون عملية انتقالية ناجحة». كذلك، شدّد على أن «الوزارة مستنفرة تماماً لضمان أن تكون الانتخابات في كل أنحاء العالم حرة وعادلة وآمنة، وأن الموظفين التابعين لي يجازفون بحياتهم من أجل ذلك». وإذ تتصرّف الإدارة وكأنّ شيئاً لم يتغيّر، أعلن وزير الخارجية الأميركي عزمه على زيارة فرنسا وتركيا وجورجيا وإسرائيل وقطر والإمارات والسعودية لبحث مجموعة من القضايا، ومن بينها «جهود ترامب التاريخية لصناعة السلام» في المنطقة.
وعلى رغم تأكيد الخبراء القانونيين استحالة تغيير نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لمصلحة ترامب، لا يزال هذا الأخير مصرّاً على أن الانتخابات مسروقة. ومع بدء بايدن بتشكيل فريقه الانتقالي لتسلّم السلطة، ردّت الإدارة الجمهورية بخطوات تؤكد أن الولايات المتحدة دخلت في أزمة دستورية. إذ عاد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته إلى الحديث عن سرقة الانتخابات، والطعن في فوز المرشح الديموقراطي. وفي تغريدة على «تويتر»، كتب ترامب: «نتائج الانتخابات ستبدأ بالظهور الأسبوع المقبل وسنفوز بها». في هذا الوقت، أفادت صحيفة «واشنطن بوست» بأن البيت الأبيض أمر الوكالات الفدرالية بتجنّب التعاون مع الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب. وكان مسؤولو الوكالات في الحكومة الفدرالية قد جهّزوا المكاتب والنشرات الخاصة بالعملية الانتقالية استعداداً لاستقبال فريق بايدن، قبل أن يأمر البيت الأبيض بعدم الاعتراف بالفريق إلى أن تصدّق إدارة الخدمات العامة على نتائج الانتخابات. ويلزم القانون الإدارة الحالية بتقديم 6 ملايين دولار لفريق المرشّح الفائز لاستغلالها في تأجير المكاتب وشراء الأجهزة وغيرها من الوسائل الضرورية للعمل الانتقالي. لكن إدارة ترامب ترفض منح هذا المبلغ لفريق بايدن، وتمنع الوكالات الحكومية من إطلاعه على البيانات المالية والاقتصادية والمعلومات الاستخبارية التي ينص القانون على تقديمها للمرشح الفائز.