عسكرة السياسات الأميركية
يتناول بحثنا الظروف التي تتدخّل عبرها الجماعات المسلّحة في السياسة الانتخابية، مستفيدين من تجارب الدول الأخرى والفترات السابقة في التاريخ الأميركي. تُظهر مقارناتنا العديد من السبل للمشاركة المسلّحة في السياسة، ولكن، هناك طريقتان مهمّتان: عندما تؤيّد النخب السياسية الجماعات المسلّحة، حتى بشكل ضمني؛ وعندما تفشل الحكومات في حشد استجابة متّسقة وموحّدة تجاه هذه الجماعات. أصبح كلا المساران نشطاً ومثيراً للقلق، بشكل متزايد، خلال رئاسة ترامب. وكلاهما، بمجرّد إطلاقه، قد يكون من الصعب إيقافه مرّة أخرى.
بغض النظر عمّن سيفوز في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر، ستكون رئاسة ترامب قد فتحت الباب أمام المزيد من العنف الانتخابي في المستقبل. إذا بدأ النظام السياسي الأميركي بتطبيع وجود الجماعات المسلّحة، وإذا فشلت وكالات إنفاذ القانون في ردع المشكلة أو معالجتها، فقد يرى الطامحون السياسيون، في المستقبل، فائدة انتخابية من تنمية هذه المنظّمات. أشار بعض الباحثين إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تتّجه إلى طريق الحرب الأهلية، ولكن السيناريو الأكثر احتمالاً هو العنف السياسي المتقطّع والمتكرّر والمنخفض المستوى – بتحريض أو تمكين من القادة السياسيين الرئيسيين -، والذي يؤدي تدريجياً إلى تآكل جودة الديموقراطية الأميركية.
الأحزاب والمجموعات المسلّحة
باتت الجماعات المسلّحة منخرطة في السياسات الانتخابية السائدة بطرق مختلفة، ويعتمد ذلك غالباً على كيفية تقييم السياسيين والجهات المسلّحة لمخاطر التعاون وفوائده. يسعى بعض الجماعات المسلّحة إلى التأثير على نتيجة الانتخابات: على سبيل المثال، من خلال دعم المرشحين صراحةً أو استهداف خصومهم علناً. يمكن للسياسيين، أيضاً، تنمية العلاقات مع الجماعات المسلّحة لتعزيز أجنداتهم وتحسين فرصهم في الفوز.
يمكن أن يكون التعاون خطيراً على كلا الجانبين، بالطبع. قد يواجه السياسيون ردّ فعل علنياً وتبعات قانونية، بسبب التعامل مع أطراف عنفيين غير حكوميين. الجماعات المسلّحة، بدورها، قد يتّهمها أنصارها ببيع نفسها أو بالدخول في الاستقطابات، في حال ألقت بثقلها وراء القوى السياسية السائدة. مع ذلك، لا تزال هناك جماعات مسلّحة أخرى تستخدم العنف، بطرق لا تتوافق بشكل مباشر مع السياسة الانتخابية، أو تخدم أيّ حزب معيّن، كما يفعل الأناركيون في الولايات المتحدة، حالياً. لكنّ المزايا المحتملة للتعاون واضحة: حتى إذا كان العنف ضارّاً بالسكان وبالنظام السياسي ككل، فإنّ نشره يمكن أن يحقّق مكاسب انتخابية كبيرة للأحزاب السياسية، أو للسياسيين كأفراد.
لهذا السبب، يُطوّر العديد من الأحزاب السياسية صلات مباشرة مع الجماعات المسلّحة، وفي بعض الأحيان تطوّر هذه الأحزاب أجنحتها المسلّحة التابعة لها بشكل لا لبس فيه. في بنغلاديش، وولاية البنغال الغربية في الهند، على سبيل المثال، تنشر الأحزاب فروعاً مسلّحة لتعزيز مصالحها الانتخابية. وينطبق الأمر ذاته على مدينة كراتشي الباكستانية، منذ الثمانينيات. شهدت أوروبا عسكرة علنية مماثلة للسياسات السائدة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كما فعل العديد من المدن الأميركية في القرن التاسع عشر، وبالطبع جنوب الولايات المتحدة في السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية. في عهد جيم كرو، ارتكبت الجهات التي لها علاقات مباشرة بالحزب الديموقراطي وحكومات الولايات أعمال عنف ضدّ الأميركيين من أصل أفريقي (…).
الجماعات المسلّحة في الولايات المتحدة
الجماعات المسلّحة العاملة في الولايات المتحدة لديها مجموعة واسعة من الأهداف. بعضها مناهض للحكومة بشكل أساسي، ما يجعل من الصعب عليها الانخراط بشكل هادف في السياسة السائدة. مع ذلك، يركّز آخرون، بشكل أساسي، على محاربة ما يرون أنه توسّع سريع لسلطة الدولة، وسلطة اليسار على وجه الخصوص. في عهد ترامب، وجّهت هذه الجماعات غضبها، بشكل متزايد، إلى الحكّام الديموقراطيين والشخصيات السياسية الأخرى، المعارِضة لرؤاهم العنصرية للدولة والأمّة الأميركيّتَين (…).
قبل انتخاب ترامب، في عام 2016، عملت هذه المجموعات بشكل أساسي على الهوامش السياسية، وكان يمكن أن تتوقّع إدانةً من معظم السياسيين الرئيسيين. لكن خطاب الرئيس أضفى الشرعية على أجنداتهم. عبر الطلب من مجموعة «Proud Boys» «الوقوف جانباً»، ورفض التنديد بتظاهرة «توحيد اليمين» في شارلوتسفيل في عام 2017، زرع ترامب غموضاً إيجابياً حول مكانة الجماعات اليمينية المتطرّفة في الساحة السياسية. حتى عندما أدان مثل هذه الجماعات، غالباً ما كانت تعليقاته تتأخّر، أو تأتي مشروطة، أو تتشابك مع انتقاد خصومها.
لكن البيئة الخطابية ليست وحدها التي تغيّرت في السنوات الأربع الماضية؛ فقد ضغطت إدارة ترامب باستمرار على وزارة الأمن الداخلي الأميركية من أجل التقليل من أهمية التهديد الذي يمثّله اليمين المتطرّف، وخلق بيئة أكثر تساهلاً لمثل هذه الجماعات للعمل فيها. وفي نظام إنفاذ القانون الأميركي المجزّأ، والمرِن سياسياً، واللامركزي، غالباً ما تتمتّع السلطات المحلية بالاستقلالية، التي تساعدها على تجاهل أنشطة الجماعات المسلّحة أو التسامح معها إذا أرادت ذلك، بل إن آخرين أقاموا روابط مباشرة: خلال احتجاج مناهض للحكومة، على سبيل المثال، شارك عمدة محلّي في ميشيغن، المنصّة، مع اثنين من أعضاء الميليشيا المتّهمين بالتآمر لاختطاف ويتمير (…).
الطريق إلى الأمام
هناك سؤال مفتوح بشأن إذا ما كان يمكن عكس المكاسب التي حقّقتها الجماعات المسلّحة في الولايات المتحدة. حتى إذا أثبتت الانتخابات أنها حاسمة وخالية من العنف، فإن الاستراتيجيات التي اتّبعها ترامب والبيئة المتساهلة التي أنشأها يمكن أن يحاكيهما سياسيون آخرون. ما لم تكن هناك تكلفة سياسية واضحة لاستراتيجية ترامب، فإن نجاحه الانتخابي النسبي قد يجعل احتضان الجماعات المسلّحة تكتيكاً جذّاباً في المستقبل (…).
إن أفضل فرصة للوقوف ضدّ المزيد من زحف الجماعات المسلّحة على الساحة السياسية الأميركية، هي التنصّل الموحّد من العنف الانتخابي من قِبَل كبار السياسيين المنتمين إلى مختلف الأطياف السياسية، من الديموقراطيين اليساريين، إلى الجمهوريين الذين يدعمون ترامب. ستحتاج وكالات إنفاذ القانون الأميركية، على المستويات الفدرالية والمحلية، إلى استئناف العمليات غير المنحازة ضدّ اليمينيين المتطرّفين، على أَنْ لا تُعاملهم بشكل مختلف عن المتطرّفين الآخرين. يمكن أن تساعد التقارير الإعلامية المقبلة عن الجماعات المسلّحة اليمينية في تكوين الرأي العام بطرق إيجابية (…).
على الرغم من أنه سيكون من الصعب التراجع عن المكاسب التي حقّقتها الجماعات اليمينية المسلّحة خلال سنوات ترامب المتساهلة، فإن الإدارة المقبلة لديها الفرصة والأدوات اللازمة لمكافحتها. يمكن للعمل المنسّق والحزبي أن يُحرِّر الديموقراطية الأميركية من نفوذ هذه الجماعات.
(فورين أفيرز – آيلا ماتانوك
وبول ستانيلاند)