إلى أي مدى أُفرغت الوزارات السيادية من مضمونها؟
مع تدويل الأزمة اللبنانية، وارتهان كلّ أشكال الحلّ بيد المبادرة الفرنسية وقدرة الرئيس سعد الحريري على إنجاحها… ومع تدهور الأوضاع الإقتصادية والمالية والإجتماعية في البلاد في ظلّ هيمنة مباشرة لثنائي مسلّح يرتبط بأجندة وتمويل خارجيين أفقدا لبنان مكانته في العالم الأوروبي عامة والعربي خاصةً… لا بدّ من الإعتراف بأنّ بدعة “الوزارات السيادية” كعُرفٍ مُكرّس، قد أفرغت من مضمونها، وأنّ مقاييس توزيع الحقائب الوزارية في حصّة الأكثرية المفترضة باتت في تفاصيلها التطبيقية “تخلو من السيادة” جملةً وتفصيلاً، فيما ينتظر الشعب المهمّش محصّلة “حزمة التفاهمات”، ونتيجة ما يلوح من مفاوضات بين الكتل السياسية المتناتشة في صراع الأجندات وتعدّد الحسابات والمسارات وتضاربها، يسأل المواطن “هل تغيرت معايير الوزارات السيادية؟ وهل صارت الوزارات السيادية غير جذّابة بالمقارنة مع “الوزارات الدسمة” كالطاقة والإتصالات والأشغال العامة والعدل؟
أين السيادة؟
يلاحظ المواطن أن ما كان يُطلق عليها اسم “وزارات سيادية” كالخارجية والداخلية والدفاع، باتت تعرض عنها الأحزاب لصوريتها. فمثلاً، لا يمكن لأي صحافي التقاط الصور في الجنوب أو في الضاحية الجنوبية لبيروت أو الأماكن التي تندرج تحت مسمى “أماكن سيطرة حزب الله” من دون الإتصال بـ”الحاج”، أو أخذ موافقة مسبقة من الحزب، وليس من وزارة الداخلية. وما حصل الأسبوع الماضي مع الصحافية نايلة شهوان لدى تغطيتها جلسة التفاوض في الناقورة، وما أقدم عليه ثلاثة شبان يتبعون لـ”حزب الله” من تكسير ورمي لعدّة التصوير التابعة لفريق عملها ومصادرة هاتفها خير دليل على ذلك. ناهيك عن عدم تطبيق الإغلاق المفروض من قبل وزارة الداخلية بسبب “كورونا” لو لم يتدخّل “حزب الله” في فرضه على المناطق التي يسيطر عليها.
مِثال آخر يتناول عدم سيادية وزارة الدفاع، هو عدم قدرتها على إغلاق المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية – السورية والتي يتمّ عبرها تهريب أغلب المواد الإستهلاكية المدعومة. أما المالية، فلا يجرؤ على المطالبة بها إلا من يستفرد بـ”توقيعها الثالث” الذي أصبح “فيتو شيعياً” موازياً لتوقيع رئيس الجمهورية الماروني، وتوقيع رئيس الوزراء السنّي في مثالثة تمسّك بالقرار المادي، ويتخطّى باب التأكّد من المحتوى المالي لأي حُكم يُتّخذ.
عقيص: السيادة هي أكثر ما تفتقده الوزارات
في هذا الإطار، كتب عضو تكتّل “الجمهورية القوية” النائب جورج عقيص في تغريدة له عبر تويتر “يعجبني الإصرار على استعمال تصنيف الوزارات بين سيادية (أين السيادة؟) وخدماتية (أين الخدمات؟). والمُمتع في التصنيف هو وضع وزارة العدل أخيراً في قائمة الوزارات الخدماتية. امّا المتعة الخالصة فهي اعتبار كلّ ما يحتاجه لبنان فعلاً وزارات ثانوية: السياحة، الصناعة، البيئة، وخصوصاً الثقافة”. وفي حديث خاص مع “نداء الوطن”، يشرح بأنّ ما كان يعنيه هو أنّ “السيادة هي أكثر ما تفتقده تلك الوزارات السيادية”، وأنّها تعاني في العمق من “تقليص وانكماش لنطاق السيادة اللازمة للمضي في الحكم السليم”. ويسأل عقيص “أين السيادة في المالية بوجود وصاية صندوق النقد غداً؟ أين السيادة في وزارة الدفاع ونحن لا نعرف حدودنا الشرقية ولا سيطرة للجيش عليها؟ أين السيادة في الخارجية وأغلب دول العالم لا تستقبل سفراءنا؟ ففي الإمارات مثلاً، سفيرنا اللبناني لا يستطيع مقابلة أي مسؤول”.
بويز: لكلّ وزارة سيادتها
من جهته، يقول وزير الخارجية الأسبق فارس بويز لـ”نداء الوطن”: “إنّ الكلام عن سيادة بعض الوزارات فارغ وليس مفهوماً دستورياً، فلكلّ وزارة سيادتها داخل إطارها وحدود عملها تمارس سيادة الدولة على ملفّاتها، عِلماً أنّ السيادة لا تتجزّأ”.
ويُكمل بويز “إذا كان لا بدّ لنا من التحدّث عن وزارة سيادية، فلا ينضوي تحت المعنى المباشر للمصطلح إلا وزارة الخارجية لأنّها تعبر كوزارة عن سيادة الدولة اللبنانية في الخارج، حيث أنّ السيادة الخارجية للدولة هي مرادفة للإستقلال السياسي. فسيادة أي دولة عادة تكون حسب واقعها، وعلى قدر ما توحي بأنّها سيدة قرارها، أمّا الدولة المقيّدة والضعيفة والتي لا تمثّل شعبها فيضعف معها مفهوم سيادتها الخارجية ودورها الخارجي. وحتّى الدولة المستضعفة داخلياً والتي يحكم شوارعها عدة أطراف، يضعف دورها السيادي في الداخل وتضعف هيبتها، ومن هنا فقط يمكن أن نحدّد ما إذا تمّ تفريغ الوزارات هذه من مفهوم السيادة أم لا، وأترك للمواطن الحكم على هذا الأمر”.
وحول إضعاف دور وزير الخارجية المستقيل أخيراً ناصيف حتي، واستبدال دوره عندما كان وزيراً بالمدير العام للأمن العام عباس ابراهيم، وتكليفه بمهام كموفد رئاسي وكمستشار سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي لرئيس الجمهورية، يقول بويز: “يجوز لرئيس الجمهورية أن يسمّي من يشاء ويوفد من يشاء، وأن يكلّف أيّاً كان ليمثّله في الخارج، أمّا وقد جرت العادة بأن يحصل هذا التكليف فقط عندما يكون أفضل ممّا يمكنه أن يقوم به غيره، مثلاً كتكليفه بملفّ أمني بحت كإعادة مخطوف في سوريا أو ما شابه. ولكن، بالفعل، إن إرسال اللواء ابراهيم وإخراج وزير الخارجية ناصيف حتي من الصورة، قد أضعف ليس دوره كوزير خارجية فحسب، بل أضعف مكانة الوزارة ككلّ وسيعاني تبعاتها من سيتمّ تعيينه لاحقاً. كما أنّه وللأسف، أعطى صورة سلبية حول من يشغل منصب الوزير أنّه لم يعد موثوقاً ولا يمثّل دولته ولا يمكنه معالجة أي ملفّ شائك، علماً بأنّ الوزير حتّي يحظى بمكانة احترام وتقدير واسعة ومروحة علاقات لا يُستهان بها، إذ أنه متخصّص بالعمليات الديبلوماسية العربية إنطلاقاً من أنه كان سفيراً سابقاً لجامعة الدول العربية لدى فرنسا ومعاون أمين عام الجامعة العربية، وعنده من الخبرة والمعرفة والإختصاص ما يمكّنه من أن يأتي بنتائج أكثر من غيره”.
بالمحصّلة، يدرك المتحكّمون بزمام الأمور أنّ قيام الدولة السيّدة المستقلّة يعني انتهاء المزايا والأعراف وتوقّف الملايين. ولهذا، لن يدخروا جهداً من أجل استمرار منطق المحاصصة والإنقسام والتناحر على ما تبقّى من “البقرات العِجاف” بعدما حلبوها لسنوات مضت… حتّى من سيادتها!